القول المفيد على كتاب التوحيد 2 محمد بن صالح العثيمين
باب من سب الدهر ، فقد آذي الله
السب : الشتم والتقبيح والذم ، وما أشبه ذلك .
الدهر : هو الزمان والوقت .
وسب الدهر ينقسم إلى ثلاثة أقسام :
الأول : أن يقصد الخبر المحض دون اللوم ، فهذا جائز ، مثل أن يقول : تعبنا من شدة حر هذا اليوم أو برده ، وما أشبه ذلك ، لأن الأعمال بالنيات ، ومثل هذا اللفظ صالح لمجرد الخبر ، ومنه قول لوط عليه الصلاة والسلام : ) هذا يوم عصيب ( [هود : 77] .
الثاني : أن يسب الدهر على أنه هو الفاعل ، ، كأن يعتقد بسبه الدهر أن الدهر هو الذي يقلب الأمور إلى الخير والشر ، فهذا شرك أكبر لأنه اعتقد أن مع الله خالقاً لأنه نسب الحوادث إلى غير الله وكل من اعتقد أن مع الله خالقاً فهو كافر ، كما أن من اعتقد أن مع الله إلهاً يستحق أن يعبد ، فإنه كافر .
الثالث : أن يسب الدهر لا لاعتقاد أنه هو الفاعل ، بل يعتقد أن الله هو الفاعل ، لكن يسبه لأنه محل لهذا الأمر المكروه عنده ، فهذا محرم ، ولا يصل إلى درجة الشرك ، وهو من السفه في العقل والضلال في الدين ، لأن حقيقة سبه تعود إلى الله سبحانه ، لأن الله تعالى هو الذي يصرف الدهر ويكون فيه ما أراد من خير أو شر ، فليس الدهر فاعلاً ، وليس السبب يكفر ، لأنه لم يسب الله تعالى مباشرة .
قوله : " فقد آذي الله " . لا يلزم من الأذية الضرر ، فالإنسان يتأذي بسماع القبيح أو مشاهدته ، ولكنه لا يتضرر بذلك ، ويتأذي بالرائحة الكريهة كالبصل والثوم ولا يتضرر بذلك ، ولهذا أثبت الله الأذية في القرآن ، قال تعالى : ) إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذاباً مهيناً ( [ الأحزاب : 57 ] ، وفي الحديث القدسي : " يؤذيني ابن آدم ، يسب الدهر وأنا الدهر ، أقلب الليل والنهار " (1)، ونفي عن نفسه أن يضره شيء ، قال تعالى : ) إنهم لن يضروا الله شيئاً ( [ آل عمران : 176] ، وفي الحديث القدسي : " يا عبادي ! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني " (2). رواه مسلم
وقول الله تعالى ) وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر …...( [ الجاثية : 24 ] الآية .
قوله تعالى : ) وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا ( . المراد بذلك المشركون الموافقون للدهرية بضم الدال على الصحيح عند النسبة ، لأنه مما تغير فيه الحركة ، والمعني وما الحياة والوجود إلا هذا ، فليس هناك آخرة ، بل يموت بعض ويحيا آخرون ، هذا يموت فيدفن وهذا يولد فيحيا ، ويقولون ، ويقولون : إنها أرحام تدفع وأرض تبلغ ولا شيء سوى هذا .
قوله : ) وما يهلكنا إلا الدهر ( . أي : ليس هلاكنا بأمر الله وقدره ، بل بطول السنين لمن طالت مدته ، والأمراض والهموم والغموم لمن قصرت مدته ، فالمهلك لهم هو الدهر .
قوله : ) وما لهم بذلك من علم ( . ) ما ( : نافية ، و ) علم ( : مبتدأ خبره مقدم ) لهم ( ، وأكد ب ( من ) ، فيكون للعموم : أي ما لهم علم لا قليل ولا كثير ، بل العلم واليقين بخلاف قولهم .
قوله : ) إن هم إلا يظنون ( . ) إن ( : هنا نافية لوقوع ) إلا ( بعدها ، أي : ما هم إلا يظنون .
الظن هنا بمعني الوهم ، فليس ظنهم مبنياً على دليل يجعل الشيء مظنوناً، بل هو مجرد وهم لا حقيقة له ، فلا حجة لهم إطلاقاً ، وفي هذا دليل على أن الظن يستعمل بمعني الوهم ، وأيضا يستعمل بمعني العلم واليقين ، كقوله تعالى : ) الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم ( [ البقرة : 46] .
والرد على قولهم بما يلى :
أولاً : قولهم : ) وما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا (.
وهذا يرده المنقول والمعقول .
أما المنقول ، فالكتاب والسنة تدل على ثبوت الآخرة ووجوب الإيمان باليوم الآخر ، وأن للعباد حياة أخرى سوى هذه الحياة الدنيا ، والكتب السماوية الأخرى تقرر ذلك وتؤكده .
وأما المعقول ، فإن الله فرض على الناس الإسلام والدعوة إليه والجهاد لإعلاء كلمة الله ، مع في ذلك من استباحة الدماء والأموال والنساء والذرية ، فمن غير المعقول أن يكون الناس بعد ذلك تراباً لا بعث ولا حياة ولا ثواب ولا عقاب ، وحكمة الله تأبى هذا ، قال تعالى : ) إن الذين فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد ( [ القصص : 85] ، أي : الذي أنزل عليك القرآن وفرض العمل به والدعوة إليه لابد أن يردك إلى معاد تجازى فيه ويجازى فيه كل من بلغته الدعوة .
ثانياً : قولهم : ) وما يهلكنا إلا الدهر ( ، أي : إلا مرور الزمن .
وهذا يرده المنقول والمحسوس :
فأما المنقول ، فالكتاب والسنة تدل على أن الإحياء والإمانة بيد الله عز وجل كما قال الله تعالى : ) هو يحيى ويميت وإليه ترجعون ( [ يونس : 56] ، وقال عن عيسى عليه الصلاة والسلام : ) وأحي الموتي بإذن الله ( [ آل عمران : 49] .
وأما المحسوس ، فإننا نعلم من يبقى سنين طويلة على قيد الحياة ، كنوح عليه السلام وغيره ولم يهلكة الدهر ، ونشاهد أطفالاً يموتون في الشهر الأول من ولادتهم ، وشباباً يموتون في قوة شبابهم ، فليس الدهر هو الذي يميتهم .
· مناسبة الآية للباب
أن في الآية نسبة الحوادث إلى الدهر ، ومن نسبها إلى الدهر ، فسوف يسب الدهر إذا وقع فيه ما يكرهه .
وفي " الصحيح " عن أبي هريرة عن النبي r ، قال : " قال الله تعالى : يؤذيني ابن آدم ، يسب الدهر ، وأن الدهر ، أقلب الليل والنهار " (1).
قوله : " وفي الصحيح " عن أبي هريرة .. إلى أخره " . هذا الحديث يسمي الحديث القدسي أو الإلهي أو الرباني ، وهو كل ما يرويه النبي r عن ربه عز وجل ، وسبق الكلام عليه في باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب .
قوله : " قال الله تعالى " . تعالى من العلو ، وجاءت بهذه الصيغة للدلالة على ترفعه جل وعلا عن كل نقص وسفل ، فهو متعال بذاته وصفاته ، وهي أبلغ من كلمة علا ، لأنها معني الترفع والتنزه عما يقوله المعتدون علواً كبيراً .
قوله : " يؤذيني ابن آدم " . أي : يلحق بي الأذى ، فالأية لله ثابتة ويجب علينا إثباتها ، لأن الله أثبتها لنفسها ، فلسنا أعلم من الله بالله ، ولكنها ليست كأذية المخلوق ، بدليل قوله تعالى : ) ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ( [الشورى : 11] وقدم النفي في هذه الآية على الإثبات لأجل أن يرد الإثبات على قلب خال من توهم المماثلة ويكون الإثبات حينئذ على الوجه اللائق به تعالى ، وأنه لا يماثل في صفاته كما لا يماثل في ذاته ، وكل ما وصف الله به نفسه ، فليس فيه احتمال للتمثيل ، إذ لو كان احتمال التمثيل جائزاً في كلامه سبحانه وكلام رسوله فيما وصف به نفسه ، لكان احتمال الكفر جائزاً في كلامه سبحانه وكلام رسوله .
قوله : " ابن آدم " . شامل للذكور والإناث ، وآدم هو أبو البشر ، خلقه الله تعالى من طين وسواه ونفخ فيه من روحه وأسجد له الملائكة وعلمه الأسماء كلها.
واعلم أنه من المؤسف أنه يوجد فكرة مضلة كافرة ، وهي أن الآدميين نشؤوا من قرد لا من طين ، ثم تطور الأمر بهم حتى صاروا على هذا الوصف ، ويمكن على مر السنين أن يتطوروا حتى يصيروا ملائكة ، وهذا القول لا شك أنه كفر وتكذيب صريح للقرآن ، فيجب علينا أن ننكره إنكاراً بالغاً ، وأن لا نقره في كتب المدارس ، فمن زعم هذه الفكرة يقال له : بل أنت قرد في صورة إنسان ، ومثلك كما قال الشاعر :
إذا ما ذكرنا آدماً وفعاله وتزويجه بنتيه بابنيه في الخنا
علمنا بأن الخلق من نسل فاجر وأن جميع الناس من عنصر الزنا
وأجابه بعض العلماء بجواب ، فقال : أنت الآن أقررت أنك ولد زنا ، وإقرارك على نفسك مقبول وعلى غيرك غير مقبول ، ومثلك كما قال الشاعر :
كذلك إقرار الفتى لازم له وفي غيره لغو كما جاء شرعنا
ولكن أنا في الحقيقة يؤلمني أن يوجد هذا بين أيدي شبابنا ، فبعض الناس أخذوا به على أنه أمر محتمل ، والواقع أنه لا يحتمل سوى البطلان والكذب والدس على المسلمين بالتشكيك بما أخبرهم الله به عن خلق آدم وبنيه .
وأيضاً مما يحذر عنه كلمة ( فكر إسلامي ) ، إذ معني هذا أننا جعلنا الإسلام عبارة عن أفكار قابلة للأخذ والرد ، وهذا خطر عظيم أدخله علينا أعداء الإسلام من حيث لا نشعر ، والإسلام شرع من عند الله وليس فكراً لمخلوق .
قوله : " يسب الدهر " . الجملة تعليل للأذية أو تفسير لها ، أي : بكونه يسب الدهر ، أي : يشتمه ويقبحه ويلومه وربما يلعنه والعياذ بالله يؤذي الله ، والدهر : هو الزمن والوقت ، وقد سبق بيان أقسام سب الدهر .
قوله : " وأنا الدهر " . أي : مدبر الدهر ومصرفه ، لقوله تعالى : ) وتلك الأيام نداولها بين الناس ( [ آل عمران : 140 ] ، ولقوله في الحديث : " أقلب الليل والنهار " ، والليل والنهار هما الدهر .
ولا يقال بأن الله هو الدهر نفسه ، ومن قال ذلك ، فقد جعل الخالق مخلوقاً ، والمقلِّب بكسر اللام مقلَّباً بفتح اللام .
فإن قيل : أليس المجاز ممنوعاً في كلام رسوله وفي اللغة ؟
أجيب : إن الكلمة حقيقة في معناها الذي دل عليه السياق والقرائن ، وهنا في الكلام محذوف تقديره : وأنا مقلب الدهر ، لأنه فسره بقوله : " أقلب الليل والنهار " ، والليل والنهار هما الدهر ، ولأن العقل لا يمكن أن يجعل الخالق الفاعل هو المخلوق المفعول ، المقلِّب هو المقلَّب ، وبهذا عرف خطأ من قال : إن الدهر من أسماء الله ، كابن حزم رحمه الله ، فإنه قال : " إن الدهر من أسماء الله " ، وهذا غفلة عن مدلول هذا الحديث ، وغفلة عن الأصل في أسماء الله ، فأما مدلول الحديث ، فإن السابين للدهر لم يريدوا سب الله ، وإنما أرادوا سب الزمن ، فالدهر هو ا لزمن في مرادهم ، وأما الأصل في أسماء الله ، أن تكون حسنى، أي : بالغة في الحسن أكمله ، فلابد أن تشتمل على وصف ومعني هو أحسن ما يكون من الأوصاف والمعاني في دلالة هذه الكلمة ، ولهذا لا تجد في أسماء الله تعالى أسماً جامداً أبداً ، لأن الاسم الجامد ليس فيه معنى أحسن أو غير أحسن ، لكن أسماء الله كلها حسنى ، فيلزم من ذلك أن تكون دالة على معان ، والدهر اسم من أسماء الزمن ليس فيه معنى إلا أنه اسم زمن ، وعلي هذا ، فينتفي أن يكون أسماً لله تعالى لوجهين :
الأول : أن سياق الحديث يأباه غاية الإباء .
الثاني : أن أسماء الله حسنى ، والدهر اسم جامد لا يحمل معنى إلا أنه اسم للأقات.
فلا يحمل المعني الذي يوصف بأنه أحسن ، وحينئذ فليس من أسماء الله تعالى ، بل إنه الزمن ، ولكن مقلب الزمن هو الله ، ولهذا قال : " أقلب الليل والنهار " .
قوله " أقلب الليل والنهار " . أي : ذواتهما وما يحدث فيهما ، فالليل والنهار يقلبان من طول إلى قصر إلى تساو، والحوادث تتقلب فيه في الساعة وفي اليوم وفي الأسبوع وفي الشهر وفي السنة ، قال تعالى : ) قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز ومن تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير ( [ آل عمران : 26] ، وهذا أمر ظاهر ، وهذا التقليب له حكمة قد تظهر لنا وقد لا تظهر ، لأن حكمة الله أعظم ، لأن حكمة الله أعظم من أن تحيط بها عقولنا ، ومجرد ظهور سلطان الله عز وجل وتمام قدرته هو من حكمة الله لأجل أن يخشى الإنسان صاحبه هذا السلطان والقدرة ، فيتضرع ويلجأ إليه
قوله : " وفي رواية : لا تسبوا الدهر ، فإن الله هو الدهر " . وفائدة هذه الرواية أن فيها التصريح في النهي عن سب الدهر .
قوله : " فإن الله هو الدهر " . وفي نسخة " فإن الدهر هو الله" ، والصواب : " فإن الله هو الدهر " .
وقوله " فإن الله هو الدهر " ، أي : فإن الله هو مدبر الدهر ومصرفه ، وهذا تعليل للنهي ، ومن بلاغة كلام الله ورسوله قرن الحكم بالعلة لبيان الحكمة وزيادة الطمأنينة ، ولأجل أن تتعدى العلة إلى غيرها فيما إذا كان المعلل حكماً ، فهذه ثلاث فوائد في قرن العلة بالحكم .
· فيه مسائل :
الأولى : النهي عن سب الدهر . الثانية : تسميته أذىً لله . الثالثة : التأمل في قوله : " فإن الله هو الدهر " . الرابعة : أنه قد يكون ساباً ولو لم يقصده بقلبه .
فيه مسائل :
· الأولى : النهي عن سب الدهر . لقوله : " لا تسبوا الدهر " .
· الثانية : تسميته أذىً لله . تؤخذ من قوله : " يؤذيني ابن آدم " .
· الثالثة : التأمل في قوله : " فإن الله هو الدهر " . فإذا تأملنا فيه وجدنا أن معناه أن الله مقلب الدهر ومصرفه وليس معناه أن الله هو الدهر ، وقد سبق بيان ذلك .
· الرابعة : أنه قد يكون ساباً ولو لم يقصده بقلبه . تؤخذ من قوله : " يؤذيني ابن آدم ،، يسب الدهر " . ولم يذكر قصداً ولو عبر الشيخ بقوله : أنه قد يكون مؤذياً لله وإن لم يقصده ، لكان أوضح وأصح ، لأن الله صرح بقول : " يسب الدهر " . والفعل لا يضاف إلا لمن قصده .
· وقد فات على الشيخ رحمه الله بعض المسائل ، منها : تفسير آية الجاثية ، وقد سبق ذلك.
--------------------------------------------------------------------------------
(1) يأتي ( ص 826) .
(2) مسلم : كتاب البر والصلة / باب تحريم الظلم .
(1) البخاري : كتاب التوحيد / باب قوله تعالى : ) يريدون أن يبدلوا كلام الله ( ، تفسير سورة الجاثية ، ومسلم : كتاب الألفاظ / باب النهي عن سب الدهر .