السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وليعفوا وليصفحوا
الحمد لله العفو الغفور ، الحليم الرحيم ، والصلاة والسلام على الرسول الكريم الذي لم يكن فاحشاً ولا متفحشاً ، ولا صخاباً في الأسواق ، ولا يجزي بالسيئة السيئة ، ولكن يعفو ويصفح . 1
أ ما بعد :

فإن العفو عن المعتدي ، والصفح عن المؤذي ، من أعظم الأعمال ، وأكرم الخصال التي يؤجر عليها العبد المسلم الذي آثر آخرته على دنياه ، وقدَّم ما يبقى من الأجور والثواب في يوم الحساب على ما يزول ويفنى من أخذ الحقوق واستيفاء ما للنفس من واجبات .
قال تعالى : ( فمن عفا وأصلح فأجره على الله ..( 2
وإنها لكبيرة إلا على أولي العزم من الرجال ذوي العزائم العظام كالجبال !
قال تعالى : ( ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور ( 3

وما دام المرء مع غيره من الناس ، فإنه لن يسلم من خصيم ، ولن تصفو له الحياة من غير تكدير ، ولن يعيش فيها من دون معارض أو مغرض ، فإنها مطبوعة على الأكدر ، ممزوجة بالمنغصات ، مختلطة بالمشاكل والخلافات ، فهي دار البلايا والرزايا ، والسعيد فيها من خرج منها وليس لأحدٍ عليه مظلمة ، أو في ذِمَّته مغرمة ، وتلك رحى البلاء ، ومضمار الاختبار !

وهنا يبرز دور العفو عن المظالم ، والصفح عن المخاصم ، والتجاوز عن المعتدي ، والسماح للمسيء ، لتصفو القلوب ، وتتجانس الأرواح ، ويتحد الصف ، ويلتم الشمل ، وتسل سخائم النفوس .

قال تعالى :[ إن تبدوا خيراً أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوَّا قديراً ] 4
وليست القوة في أخذ الحقِّ ، بل في تركه بعد القدرة عليه ، والمسامحة عنه خلف الوصول إليه ، وليس لها سوى أهل السُّمو من الهمم ، والعلو من العزائم ، فالعفو عِزٌّ ، والصفح كرامة ، والسماحة مروءة .
فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم :" ما نقصت صدقة من مالٍ ، وما زاد الله عبداً بعفوٍ إلا عِزاً ، وما تواضع أحدٌ لله إلاَّ رفعهُ اللهُ " 5

وما مِنَّا من أحدٍ إلا ويحب أن يُغفر له إذا أخطأ ، ويُسامح إذا تجاوز ، فلم لا يبذل المعروف لغيره ، ويمنح العفو لسواه ؟!

فعن عبد الله بن عمرو ـ رضي الله عنهما ـ أنَّ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال :" ارحموا تُرحموا ، واغفِرُوا يُغفَر لكُم " 6

وعن جرير ـ رضي الله عنهما ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم :" من لا يَرحم لا يُرحم ، ومن لا يغفِر لا يُغفر له ، ومن لا يتب لا يُتب عليهِ" 7
ونفسك ميدانك الأول ، فهب للناس ما ترجوه لنفسك ، وسامح من يسيء إليك ، واصفح عمّن تعدى عليك ، فيوم الجزاء بين يديك ، فعن عبادة بن الصامت ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم :" ما من رجلٍ يُجرحُ في جسدهِ جِراحةً ، فيتصدَّقُ بها ، إلاَّ كفَّر الله عنه مثلَ ما تصدَّقَ بهِ" 8

وعن رجلٍ من أصحابِ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن النبيِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال :" مَن أُصيبَ بشيءٍ في جسده ، فتركَهُ لله عزَّ وجلَّ ؛ كان كفَّارةً له " 9
وبين يديك سار الأبطال ، فقدِّم لنفسك قبل خروج نفسك !

* أُتي عبد الملك بن مروان بأسارى ابن الأشعث فقال لرجاء بن حيوة : ما ترى ؟ قال : إن الله تعالى قد أعطاك ما تحب من الظفر ، فأعط الله ما يحب من العفو، فعفا عنهم . 10

* عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن رجلاً استأذن على عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ فأذن له ، فقال له : يا ابن الخطاب ! والله ما تعطينا الجزل ، ولا تحكم بيننا بالعدل . فغضب عمر ـ رضي الله عنه ـ حتى همَّ أن يُوقع به ، فقال الحرُّ بن قيس : يا أمير المؤمنين ! إن الله ـ عزَّ وجلَّ ـ قال لنبيِّه ـ صلى الله عليه وسلم :[ خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ] 11 وإنَّ هذا من الجاهلين .
فو الله ما جاوزها عمر ـ رضي الله عنه ـ حين تلاها عليه ، وكان وقَّافاً عند كتاب الله تعالى . 12

* روي عن الحسين بن علي ـ رضي الله عنهما ـ كان له عبد يقوم بخدمته ، ويقرب إليه طهره فقرب إليه طهره ذات يومٍ كوزا ، فلما فرغ الحسين من طهوره رفع العبد الكوز من بين يديه فأصاب فم الكوز رباعية الحسين ، فكسرها ، فنظر إليه الحسين ، فقال الغلام : [ والكاظمين الغيظ ] قال : قد كظمتُ غيظي فقال : [ والعافين عن الناس ] قال قد عفوتُ عنك ، قال : [ والله يحب المحسنين ] قال : اذهب فأنت حرٌ لوجه الله تعالى قال : وما جائزة عتقى ؟ قال السيف والدرقة فإني لا أعلمُ في البيتِ غيرهما . 13

* جاء غلامٌ لأبي ذر ـ رضي الله عنه ـ وقد كسر رجلَ شاةٍ له ، فقال له : مَن كسَر رجل هذه ؟ قال : أنا فعلته عمداً لأغيظك ، فتضربني ، فتأثم . فقال : لأغيظنَّ من حرَّضك على غيظي ، فأعتقَه . 14 وعفى عنه .
فأحسن إلى من أساء إليك ، وتجاوز عمن تعدي عليك ، واعف عمن ظلمك ، وأعط من حرمك ، وارحم من أغلظ عليك ، واجعل عفوك على كرمك دليل ، فقد قال تعالى :( فاصفح الصفح الجميل ( 15
للشيخ: عبد اللطيف بن هاجس الغامدي
------------------------------------------
1 صحيح سنن الترمذي (2/196) (1640) .
2 الشورى : 40 .
3 الشورى : 43 .
4 النساء : 149
5 صحيح مسلم (4/1588) (2588) .
6 رواه أحمد ، انظر : صحيح الترغيب والترهيب (2/641) (2465) .
7 أخرجه الطبراني في الكبير ، انظر: السلسلة الصحيحة (1/792) (483) .
8 أخرجه أحمد في المسند، انظر: السلسلة الصحيحة (5/343) (2273) .
9 رواه أحمد ، انظر : صحيح الترغيب والترهيب ( 2/640) (2461) .
10 إحياء علوم الدين ـ الغزالي (3/196) .
11 الأعراف : 199
12 مختصر منهاج القاصدين ـ ابن قدامة ـ ص (187) .
13 دليل الفالحين ـ ابن علان الصديقي (1/197) .
14 مختصر منهاج القاصدين ـ ابن قدامة المقدسي ـ ص (190) .
15 الحجر : 85 .