وما كان من المشركين
للشيخ: عبد الرحمن بن صالح الحجي

بسم الله الرحمـٰن الرحيم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إلـٰه إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدا عبد الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تسليما كثيرا.
أيها الناس تقوا الله تعالى حق التقوى، وتمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، وعضوا بالناجذ على السنة، واصبروا عليها، وأطيعوا ربكم، وتقلبوا في مراضيه وسارعوا إليها؛ فإن الله -عز وجل- إنما خلقكم لعبادته، وأنتم إليه راجعون لا محالة.
واعلموا أن أصدق الحديث كتاب الله -عز وجل- وأحسن الهدي هدي رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وأن شر الأمور محدثاتها، وأن كل محدثة بدعة، وأن كل بدعة ضلالة.
إخواني في الله معاشر المسلمين، معاشر الموحّدين، أثنى ربنا جل وعلا على خليله وعبده إبراهيم بالقرآن الكريم ثناء عاطرا كثيرا، وأطراه ووصفه بصفات جليلة كثيرة، ولكن من أعجبها وأعظمها صفة وصفه الله بها كثيرا، وهي أنه لم يكن من المشركين.
وعند الوهلة الأولى يظن العبد أنه يشترك مع إبراهيم في هـٰذه الصفة، وأن كل مسلم يصدق عليه هـٰذا الوصف، ويتعجّب من هـٰذا الوصف لأنه في مقام الثناء على رجل من سادات بني آدم ومن أقربهم إلى الله عز وجل؛ ولكنه إذا علم أن الناس في البراءة من الشرك وأهله على درجات كثيرة بينها كما بين السماء والأرض، وأنهم في تحقيق التوحيد والتعلّق بالله عز وجل وعدم التعلق بغيره على درجات عظيمة، بينها كما بين السماء والأرض انكشف له الأمر، وعلم أنّ الله أثنى على خليله بأنه لم يكن من المشركين، أي أن إبراهيم جاهد نفسه وطهر نفسه من الشرك كله دقيقه وجليله خفيه وظاهره، وكان قلبه سليما عليه السلام ﴿إِذْ جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84)﴾[الصافات:84].
إن هـٰذه أيها الإخوة هي التي يتفاضل بها العباد عند الله، مقدار الطهارة من الشرك، الشرك الخفي وهو أخطر شيء، والشرك الجلي تخوف النبي –عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ- على أمته هـٰذا الشرك، وبين لهم خفاءه، وأنه يخافه عليه كثر من الدجال، وقال ابن عباس: ﴿فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً﴾[البقرة:22]، قال: الشرك هو أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل. قال الشيخ سليمان بن عبد الله رحمه الله: أخفى شيء في هـٰذه الدنيا أثر النمل ودبيبه، فكيف إذا كان على صفاة؟! وكيف إذا كانت سوداء؟! وكيف إذا كان في ظلمة الليل؟! وفي هـٰذا دلالة على خطورة هـٰذا الأمر، وقلة من يعرفه، وقلة من يتخلص منه ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾[النحل:120]، توحيد إبراهيم لا يلحقه أي توحيد من عباد الله، حاشا أشبه الناس به خلقا وخلقا حفيده محمد بن عبد الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وإن براءة إبراهيم من الشرك ومن أهل الشرك وتخلص إبراهيم من الشرك كله دقيقه وجليله لا يلحقه فيه أحد، حاشا حفيده وشبيهه محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
إخوتي في الله، إن هـٰذا أمر جليل، إنّ الله يبغض الشرك، وإنه لا يسلم أحد منه إلا من رحم الله، وبعضه أكبر مخرج من الملة، وبعضه أصغر، وبعضه خفي قد لا يبلغ هذين؛ ولكنه وسيلة إليهما ونأخذ ذلك من سيرة إبراهيم، فحبه لله لا يعدله حب، وهو الذي قد بلغ مرتبة الخلة، اتخذه الله خليلا، فإبراهيم لا يحب أحدا في الدنيا كحبه لله عز وجل، وما أكثر الدعاوى؛ ولكن إبراهيم لما عُرض على الامتحان وجد خليلا حقيقيا عليه السلام، كان شيخا كبيرا ورزقه الله ابنا وبلغه السعي وأحبه كأحب ما يحب الآباء الأبناء، ثمرة فؤاده وفلذة كبده، وهو أحوج شيء إليه؛ ولكن لما أمره خليله أن يذبح ابنه لم يتردد ولم يتراجع ولم يراجع ربه، واختبر الفتى فـ﴿قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102)﴾[الصافات:102]، قذف الله في قلبه إسماعيل هـٰذا الإيمان هو فتى واقتبس من جدوة أبيه بمصاحبته له، اقتبس هـٰذا النور ﴿سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا﴾ استسلم الأب والابن وأضجع ابنه إلى اتجاه القبلة، ﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103)﴾[الصافات:103]، هل بقي بعد ذلك شك أنه سيذبح ابنه طاعة لله وحبا لله؟ قال الله: ﴿وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاء الْمُبِينُ (106)﴾[الصافات:104-105]، وأما خوفه من الله فلا يشبهه شيء، وعدم خوفه من المخلوق لا يشبهه شيء، يصرح لقومه فيقول: ﴿ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ (82)﴾[الأنعام:81-82]، هـٰذا كلامه وهو فتى، وأما رجاؤه في الله وتعلقه بالهُ فلا يشبهه شيء، توحيد ليس بعده توحيد، قال الله لنبيه: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69)﴾[الشعراء:69]، اتل عليهم نبأهم فإن فيه عجبا ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُم﴾[الشعراء:69-75]، اجتمع في هـٰذا الكلام الحب لله والتوكل لله والقوة والشجاعة وعدم الخوف من المخلوق والرجاء وأمور عظام لا توصف، قال: ﴿قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي﴾[الشعراء:75-77]، هـٰذه هي الحكمة؛ التصريح بالحق ولو كان أمر ما يكون، أمام هؤلاء الظالمين، هـٰذه هي الحكمة التي يعافها كثير من الناس اليوم، ويلتمسون حكمة مشوّهة، هـٰذه حكمة إبراهيم ومحمد –عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ-، قال: ﴿قالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي﴾[الشعراء:75-79]، إن إبراهيم يتصوّر معروف الله له وينظره حتى في طعامه وشرابه، يرى أن الله هو الذي يطعمه وهو الذي يسقيه، يستذكر ذلك في كل طعام وشراب، ﴿وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83)﴾[الشعراء:79-83]، يخاف من سوء الخاتمة وهو إبراهيم ﴿رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ (88) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)﴾[الشعراء:83-89].
إنّ إبراهيم -عليه السلام- من توحيده لله لا يخاف الفقر ﴿فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاء بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26)﴾[الذاريات:26]، لهؤلاء الأضياف، وكان سخاؤه لا يشبهه شيء، وكانت شجاعته لا يشبهها شيء، ﴿فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لا تَنطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93)﴾[الصافات:91-93]، قال الله: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِه عَالِمِينَ (51)﴾[الأنبياء:51]، إن الله حكيم يضع الشيء في موضعه، قال: ﴿وَكُنَّا بِه عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52)﴾[الأنبياء:51-52]، وهو فتى كما في هـٰذه الآيات، كان فتى ولم يمنعه ذلك من القوة والتعلّق بالله، واليأس من المخلوق، وأنه لا يضر ولا ينفع إلا بإذن الله عز وجل، ﴿مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ (54)﴾[الأنبياء:52-54]، لله دره، الصراحة بالحق والجَابهة به، ولذلك أنظروا تأثير كلمته عليهم، لما تكلم بجد وبدون مداهنة ولا مراوغة أخذوا الأمر بجد، وهكذا كل داع إلى الله قالوا: ﴿أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ (55) قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَٰوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57)﴾[الأنبياء:55-57]، لم يكن له أصحاب يخاف عليهم، كان أمة وحده، وهانت نفسه عنده في ذات الله ﴿وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلاَّ كَبِيرًا لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاء يَنطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (67) قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69)﴾[الأنبياء:57-69]، إنه إبراهيم، وإن أعظم صفة فيه أنه لم يكن من المشركين، أمره الله أن يذهب فلذة كبده إسماعيل وأمه هاجر ويضعهما في مكة ويتركهما، لم يتردد، فلمّا وضعهما في ذلك الوادي لا زرع ولا ماء ولا أنيس ولا بشر تولى وتركهما، فلحقته المرأة: يا إبراهيم أتتركنا هاهنا؟ لا أنيس ولا زرع ولا ماء؟! فجعل –عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ- لا يلتفت حزم وقوة في أمر الله، وعدم فتح باب للعاطفة في أمر الله عز وجل، إنه الخليل جعل لا يلتفت، وكانت هـٰذه المرأة وهي أمكم يا بني إسماعيل، كانت قبطية تربت في قصور الطواغيت، في قصور النمرود؛ ولكن منّ الله عليها بالإيمان وصاحبت هـٰذا الرجل الصالح واقتبست منه أمرا عظيما، فلما رأته لا يلتفت قالت: يا إبراهيم آلله أمرك بهـٰذا؟ إذن لا يضيعنا، التوكل على الله عز وجل، ضع نفسك في مكانه حتى تعلم المقامات العالية التي كان فيها إبراهيم عليه السلام.
وأما يأسه من الناس وتعلقه بالله، وأنسه بالله وعدم الوحشة من هؤلاء الخلق كلهم، فهو أمر عجب وصفه الله بأنه أمة لوحده، كان يهاجر من العراق إلى الشام ويأتي إلى الحجاز أمة وحده، هو في واد وهؤلاء الخلق في واد آخر، ولم يستوحش، ما أحوجنا إلى هـٰذه الصفة خاصة في هـٰذه الأيام، إننا أمام فتن عظام، من كان لا يأنس إلا بالناس أوشك الناس أن يفتنوه، ومن تعلق بالله وعوّد نفسه على الوحدة وعلى الغربة وعلى الأنس بالله عز وجل أوشك أن يفرّ بدينه من الفتن، وأما هجره القريب والبعيد في ذات الله والبراءة من الشرك وأهله، ولو كان أقرب قريب، فإبراهيم عجب من العجب، قال الله: ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ﴾[الممتحنة:04]، فهـٰذه لها معنى ذكره الله في آية أخرى فقال: ﴿وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)﴾[التوبة:114].
إخوتي في الله، احذروا من الشرك الخفي، احذروا من الشرك الخفي، فإن منه أن تزيِّن العمل لما ترى من نظر رجل أو مدح أناس، تزيِّن عبادك أو حديثك، أو كلامك لترائي به الناسي، أو الصدقة ليقال جواد، أو الشجاعة ليقال: جريء، أو القراءة ليقال: قارئ، أو التزين بالعلم ليقال: عالم، فإن هـٰذا نوع من الشرك الخفي، وأول من تسعر بهم النار، احذروا على أنفسكم أيها الإخوة بالله.
تكلم عمر بن عبد العزيز -رحمة الله عليه- في مجلس فحانت منه التفاتة فرأى قوم قد اغرورقت أعينهم بالدمع تأثرا بحديثه فسكت، فقيل له: تكلم لعل الله أن ينفعنا بكلامك، قال: إني أخشى على نفسي الكلام كما أخشى على نفسي السكوت، وإنما ينفع عند الله الفعال دون المقال. يخافون على أنفسهم من المراءاة بالسكوت، ويخافون على أنفسهم من المراءاة بالكلام ويدققون على أنفسهم.
عباد الله، ومن أسباب الشرك الخفي طاعة الأولاد والزوجات في معصية الله، احذروا على أنفسكم، إبراهيم عليه السلام لم يتردّد في ذبح ابنه لأجل الله، فما بالكم بمن يطيع زوجته وابنه في معصية الله، أليس هـٰذا سبب لتقديمهم وتفضيلهم على الله عز وجل وذريعة تؤدي به إلى الشرك.
عباد الله، مما يخاف علينا إرادة الإنسان بعمله الدنيا، فاحذروا من ذلك، فإنّ من أراد الدنيا لا يريد إلا هي كانت هي نصيبه، وليس له في الآخرة من خلاق، احذروا من أشياء كثيرة، اعلموا أنّ الشيطان يحرص منكم على الشرك بالله خفيه وجليه، ولذلك قال –عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ- لأبي بكر الصديق: ((قل اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئا وأنا أعلم وأستغفرك لما لا أعلم)).
كان رجل من أسلافكم يبكر إلى الصلاة خلف الإمام كذا وكذا سنة سنين طويلة فجاء يوم وفاتته الصلاة فجاء إلى المسجد مسرعا، ثم قال لنفسه: الآن يفقدني أهل المسجد في المكان الذي تعودوا أن يروني فيه طوال هـٰذه السنين، ثم انتبه فإذا عمله طوال هـٰذه السنين لأجل الناس وليس لأجل الله.
فاحذروا يا عباد الله، احذروا يا عباد الله أن تخافوا من الناس أكثر من خوفكم من الله، أن تلتمسوا رضا الناس بسخط الهف، أن تداهنوا الناس لأجل مرضاتهم بما يغضب الله، أن تميلوا عن الصراط لأجلهم، فإن هـٰذه أبواب من الشرك الخفي تؤدي لما هو أعظم من ذلك.
اللهم إنا نعوذ بك أن نشرك بك شيئا ونحن نعلم، ونستغفرك لما لا نعلم، اللهم إنك قلت وقولك الحق: ﴿وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ﴾[البقرة:130]، نعوذ بك أن نكون من سفهاء الأنفس وسفهاء العقول، اللهم ألزمنا ملة إبراهيم، اللهم أحينا عليها، وأمتنا عليها، ولا تجعلنا ممن رغب عنها يا رب العالمين، اللهم ارزقنا محبته محبة صادقة ومحبة نبينا –عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ- ومحبة أنبيائك ورسلك، واحشرنا في زمرتهم، وألزمنا طريقتهم، وجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم اجعلنا ممن جاءك بقلب سليم، اللهم اجعلنا ممن قدم عليك بقلب سليم طاهر من الشرك كله دقيقه وجليله، خفيه وجليه، يا رب العالمين، أنت المسؤول وأنت الموفق، وأنت المعين.
أقول ما تسمعون واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.