بسم الله الرحمن الرحيم
القول المفيد - المجلد الأول : كتاب التوحيد - 1 محمد بن صالح العثيمين
------------------------------------------------
وقول الله تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) [الذريات: 56] الآية.
الآية الأولى قوله تعالى: (وما خلق الجن والإنس إلا ليعبدون). قوله: (إلا ليعبدون) استثناء مفرغ من أعم الأحوال؛ أي: ما خلق الجن والإنس لأي شيء إلا للعبادة. واللام في قوله: (إلا ليعبدون) للتعليل، وهذا التعليل لبيان الحكمة من الخلق، وليس التعليل الملازم للمعلول؛ إذ لو كان كذلك للزم أن يكون الخلق كلهم عباداً يتعبدون له، وليس الأمر كذلك، فهذه العلة غائية، وليست موجبة. فالعلة الغائية لبيان الغاية والمقصود من هذا الفعل، لكنها قد تقع، وقد لا تقع، مثل: بريت القلم لأكتب به؛ فقد تكتب، وقد لا تكتب. والعلة الموجبة معناها: أن المعلول مبني عليها؛ فلابد أن تقع، وتكون سابقة للمعلول، ولازمة له، مثل: انكسر الزجاج لشدة الحرة. قوله: (خلقت)، أي أوجدت، وهذا الإيجاد مسبوق بتقدير، وأصل الخلق التقدير. قال الشاعر. ولأنت تفــري مـا خلقـت وبعض الناس يخلق ثم لا يفري قوله: (الجن): هم عالمُ غيبيُ مخفيُ عنا، ولهذا جاءت المادة من الجيم والنون، وهما يدلان على الخفاء والاستتار، ومنه: الجَنة، والجِنة، والجُنة. قوله: (الإنس) سموا بذلك، لأنهم لا يعيشون بدون إيناس، فهم يأنس بعضهم ببعض، ويتحرك بعضهم إلى بعض. قوله: (إلا ليعبدون) فُسِّر: إلا ليوحدون، وهذا حق، وفُسِّر: بمعنى يتذللون لي بالطاعة فِعلاً للمأمور، وتركاً للمحظور، ومن طاعته أن يوحد سبحانه وتعالى؛ فهذه هي الحكمة من خلق الجن والإنس. ولهذا أعطى الله البشر عقولاً، وأرسل إليهم رسلاً، وأنزل عليهم كتباً، ولو كان الغرض من خلقهم كالغرض من خلق البهائم؛ لضاعت الحكمة من إرسال الرسل، وإنزال الكتب؛ لأنه في النهاية يكون كشجرة نبتت، ونمت، وتحطمت، ولهذا قال تعالى: (إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد) [القصص: 85]؛ فلابد أن يردك إلى معادٍ تجازى على عملك إن خيراً فخير، وإن شراً فشر. وليست الحكمة من خلقهم نفع الله، ولهذا قال تعالى: (ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون) [الذريات: 57]. وأما قوله تعالى: (من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له) [البقرة: 245]. فهذا ليس إقراضاً لله سبحانه، بل هو غنيُّ عنه، لكنه سبحانه شبه معاملة عبده له بالقرض؛ لأنه لا بد من وفائه، فكأنه التزامُ من الله سبحانه أن يوفى العامل أجر عمله كما يوفي المقترض من أقرضه.
* * *
وقوله تعالى: (ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) [النحل: 36]
الآية الثانية قوله تعالى: (ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) [النحل: 36]. قوله: (ولقد): اللام موطئه لقسم مقدر، وقد: للتحقيق. وعليه؛ فالجملة مؤكدة بالقسم المقدر، واللام، وقد. قوله: (بعثنا)؛ أي: أخرجنا، وأرسلنا في كل أمة. والأمة هنا: الطائفة من الناس. وتطلق الأمة في القرآن على أربعة معانٍ: أ- الطائفة: كما في هذه الآية. ب- الإمام، ومنه قوله تعالى: (إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله) [النحل: 120]. ج- الملة: ومنه قوله تعالى: (إنا وجدنا آباءنا على أمة) [الزخرف: 23]. د- الزمن: ومنه قوله تعالى: (وادكر بعد أمة) [يوسف: 45]. فكل أمة بعث فيها رسول من عهد نوح إلى عهد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. والحكمة من إرسال الرسل: أ- إقامة الحجة: قال تعالى: (رسلاً مبشرين ومنذرين لئلاً يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) [النساء: 165]. ب- الرحمة: لقوله تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) [الأنبياء: 107]. ج- بيان الطريق الموصل إلى الله تعالى، لأن الإنسان لا يعرف ما يجب لله على لوجه التفصيل إلا عن طريق الرسل. قوله: (أن اعبدوا الله) أن: قيل تفسيرية، وهي التي سبقت بما يدل على القول دون حروفه؛ كفوله تعالى: (فأوحينا إليه أن اصنع الفلك) [المؤمنون: 27]، والوحي فيه معنى القول دون حروفه، والبعث متضمن معنى الوحي؛ لأن كل رسول موحى إليه. وقيل: إنها مصدرية على تقدير الباء؛ أي: بأن اعبدوا، والراجح الأول؛ لعدم التقرير. أي: تذللوا له بالعبادة، وسبق تعرف العبادة(1). قوله: (واجتنبوا الطاغوت) أي: ابتعدوا عنه بأن تكونوا في جانب، وهو في جانب، والطاغوت: مشتق من الطغيان، وهو صفة مشبهة، والطغيان: مجاورة الحد؛ كما في قوله تعالى: (إنا لما طغا الماء حملناكم في الجارية) [الحاقة: 11]؛ أي: تجاوز حده. وأجمع ما قيل في تعريفه هو ما ذكره ابن القيم رحمه الله بأنه: "ما تجاوز به العبد حده من متبوع، أو معبود، أو مطاع". ومراده من كان راضياً بذلك، أو يقال: هو طاغوت باعتبار عابده، وتابعه، ومطيعه؛ لأنه تجاوز به حده حيث نَزَّله فوق منزلته التي جعلها الله له، فتكون عبادته لهذا المعبود، واتباعه لمتبوعه، وطاعته لمطاعه طغياناً لمجاوزته الحد بذلك. فالمتبوع مثل: الكهان، والسحرة، وعلماء السوء. والمعبود مثل: الأصنام. والمطاع مثل: الأمراء الخارجين عن طاعة الله، فإذا اتخذهم الإنسان أرباباً يحل ما حرم الله من أجل تحليلهم له، ويحرم ما أحل الله من أجل تحريمهم له؛ فهؤلاء طواغيت، والفاعل تابع للطاغوت، قال تعالى: (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت) [النساء: 51]، ولم يقل: إنهم طواغيت. ودلالة الآية على التوحيد: أن الأصنام من الطواغيت التي تعبد من دون الله. والتوحيد لا يتم إلا بركنين، هما: 1- الإثبات. 2- النفي. إذ النفي المحض تعطيل محض، والإثبات المحض لا يمنع المشاركة. مثال ذلك: زيد قائم، يدل على ثبوت القيام لزيد، لكن لا يدل على انفراده به. ولم يقم أحد، هذا نفي محض. ولم يقم إلا زيد، هذا توحيد له بالقيام؛ لأنه اشتمل على إثبات ونفي. قوله: "الآية" أي: إلى آخر الآية، وتقرأ بالنصب؛ إما على أنها مفعول به لفعل محذوف تقديره أكمل الآية، أو أنها منصوب بنزع الخافض؛ أي: إلى آخر الآية. ووجه الاستشهاد بهذه الآية لكتاب التوحيد: أنها دالة على إجماع الرسل عليهم الصلاة والسلام على الدعوة إلى التوحيد، وأنهم أرسلوا به؛ لقوله تعالى: (أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت).
وقوله تعالى: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً). [الإسراء: 23] الآية.
الآية الثالثة قوله تعالى: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه...) الآية. قوله: (قضى) قضاء الله - عز وجل - ينقسم إلى قسمين: 1- قضاء شرعي. 2- قضاء كوني. فالقضاء الشرعي: يجوز وقوعه من المقضي عليه وعدمه، ولا يكون إلا فيما يحبه الله. مثال ذلك: هذه الآية: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه) [الإسراء: 23]؛ فتكون قضى بمعنى: شرع، أو بمعنى: وصى، وما أشبههما. والقضاء الكوني: لابد من وقوعه، ويكون فيما أحبه الله، وفيما لا يحبه. مثال ذلك: قوله تعالى: (وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علواً كبيراً) [الإسراء: 4] فالقضاء هنا كوني؛ لأن الله لا يشرع الفساد في الأرض، ولا يحبه. قوله: (أن لا تعبدوا). (أن) هنا مصدرية بدليل حذف النون من تعبدوا، والاستثناء هنا مفرغ؛ لأن الفعل لم يأخذ مفعوله؛ فمفعوله ما بعد إلا. قوله: (إلا إياه) ضمير نصب منفصل واجب الانفصال؛ لأن المتصل لا يقع بعد إلا، قال ابن مالك: وذو اتصال منه ما لا يبتدا ولا يلي إلا اختياراً أبداً إشكال وجوابه: إذا قيل: ثبت أن الله قضى كوناً ما لا يحبه؛ فكيف يقضي الله ما لا يحبه؟ فالجواب: أن المحبوب قسمان: 1- محبوب لذاته. 2- محبوب لغيره. فالمحبوب لغيره قد يكون مكروهاً لذاته، ولكن يحب لما فيه من الحكمة والمصلحة؛ فيكون حينئذ محبوباً من وجه، مكروهاً من وجه آخر. مثال ذلك: الفساد في الأرض من بني إسرائيل في حد ذاته مكروه إلى الله؛ لأن الله لا يحب الفساد، ولا المفسدين، ولكن للحكمة التي يتضمنها يكون بها محبوباً إلى الله - عز وجل - من وجه آخر. ومن ذلك: القحط، والجدب، والمرض، والفقر؛ لأن الله رحيم لا يحب أن يؤذي عباده بشيء من ذلك، بل يريد بعباده اليسر، لكن يقدره للحكم المترتبة عليه؛ فيكون محبوباً إلى الله من وجه، مكروهاً من وجه آخر. قال الله تعالى: (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون) [الروم: 41]. فإن قيل: كيف يتصور أن يكون الشيء محبوباً من وجه مكروهاً من وجه آخر؟ فيقال: هذا الإنسان المريض يعطى جرعة من الدواء مُرَّة كريهة الرائحة واللون، فيشربها، وهو يكرهها لما فيها من المرارة واللون والرائحة، ويحبها لما فيها من الشفاء، وكذا الطبيب يكوي المريض بالحديدة المحماة على النار، ويتألم منها؛ فهذا الألم مكروه له من وجه، محبوب له من وجه أخر. فإن قيل: لماذا لم يكن قوله: (وقضي ربك أن لا تعبدوا إلا إياه) من باب القضاء القدري؟ أجيب: بأنه لا يمكن؛ إذ لو كان قضاءً قدرياً لعبد الناس كلهم ربهم، لكنه قضاء شرعي قد يقع وقد لا يقع. والخطاب في الآية للنبي صلى الله عليه وسلم ولكن، لكنه قال: (وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه)، ولم يقل "أن لا تعبد"، ونظير ذلك في القرآن قوله تعالى: (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء) [الطلاق: 1] ؛ فالخطاب الأول للرسول صلى الله عليه وسلم والثاني عام؛ فما الفائدة من تغيير الأسلوب؟ أجيب: إن الفائدة من ذلك: 1- التنبيه؛ إذ تنبيه المخاطب أمر مطلوب للمتكلم، وهذا حاصل هنا بتغيير الأسلوب. 2- أن النبي صلى الله عليه وسلم زعيم أمته، والخطاب الموجه إليه موجه لجميع الأمة. 3- الإشارة إلى أن ما خوطب به الرسول صلى الله عليه وسلم فهو له ولأمته؛ إلا ما دلّ الدليل على أنه مختص به. 4- وفي هذه الآية خاصة الإشارة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم مربوب لا رب، عابد لا معبود؛ فهو داخل في قوله: (تعبدوا)، وكفى به شرفاً أن يكون عبداً لله - عز وجل - ولهذا يصفه الله تعالى بالعبودية في أعلى مقاماته؛ فقال في مقام التحدي والدفاع عنه: (وإن كنتم في ريب مما نزّلنا على عبدنا) [البقرة: 23]، وقال في مقام إثبات نبوته ورسالته إلى الخلق: (تبارك الذي نزّل الفرقان على عبده) [الفرقان: 1]، وقال في مقام الإسراء والمعراج (سبحان الذي أسرى بعبده) [الإسراء: 1]، (فأوحى إلى عبده ما أوحى) [النجم: 10]. أقسام العبودية: تنقسم العبودية إلى ثلاثة أقسام: 1- عامة، وهي عبودية الربوبية، وهي لكل الخلق، قال تعالى: (إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبداً) [مريم: 93]، ويدخل في ذلك الكفار. 2- عبودية خاصة، وهي عبودية الطاعة العامة، قال تعالى: (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً) [الفرقان: 63]، وهذه تعم كل من تعبد لله بشرعه. 3- خاصّة الخاصّة، وهي عبودية الرسل عليهم الصلاة والسلام، قال تعالى عن نوح: (إنه كان عبداً شكوراً) [الإسراء: 3]، وقال عن محمد: (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا) [البقرة: 23]، وقال في آخرين من الرسل: (وأذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار) [ص: 45]. فهذه العبودية المضافة إلى الرسل خاصة الخاصة؛ لأنه لا يباري أحد هؤلاء الرسل في العبودية. قوله: (وبالوالدين إحساناً) أي: قضى ربك أن نحسن بالوالدين إحسانا، والوالدان: يشمل الأم، والأب، ومن فوقهما، لكنه في الأم والأب أبلغ، وكلما قربا منك كانا أولى بالإحسان، والإحسان، بذل المعروف، وفي قوله: (وبالوالدين إحساناً) بعد قوله: (وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه) دليل على أن حق الوالدين بعد حق الله- عز وجل -. فإن قيل: فأين حق الرسول صلى الله عليه وسلم؟ أجيب: بأن حق الله متضمن لحق الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله لا يعبد إلا بما شرع الرسول صلى الله عليه وسلم. وقوله: (إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أوفٍّ) أي: كف الأذى عنهما؛ ففي قوله: (إحساناً): بذل المعروف، وفي قوله: (فلا تقل لهما أوفٍّ): كف الأذى، ومعنى "أف": أتضجر؛ لأنك إذا قلته؛ فقد يتأذّيان بذلك، وفي الآية إشارة إلى أنهما إذا بلغا الكبر صارا عبئاً على ولدهما؛ فلا يتضجر من الحال، ولا ينهرهما في المقال إذا أساءا في الفعل أو القول. قوله: (وقل لهما قولاً كريماً)، أي: لينا حسناً بهدوء وطمأنينة؛ كقولك: أعظم الله أجرك، أبشري يا أمي، أبشر يا أبي، وما أشبه ذلك؛ فالقول الكريم يكون في صيغته، وأدائه، والخطاب به، فلا يكون مزعجاً كرفع الصوت مثلاً، بل يتضمن الدعاء والإيناس لهما. والشاهد في هذه الآية: قوله تعالى: (ألا تعبدوا إلا إياه)؛ فهذا هو التوحيد لتضمنه للنفي والإثبات.