القول المفيد - المجلد الأول : باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب - 1 محمد بن صالح العثيمين
------------------------------------------------------
سبق أن ذكر المؤلف كتاب التوحيد؛ أي: وجوب التوحيد، وأنه لا بد منه، وأن معنى قوله تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) [الذاريات: 56]: أن العبادة لا تصح إلا بالتوحيد. وهنا ذكر المؤلف فضل التوحيد، ولا يلزم من ثبوت الفضل للشيء أن يكون غير واجب، بل الفضل من نتائجه وآثاره. ومن ذلك صلاة الجماعة ثبت فضلها بقوله صلى الله عليه وسلم: "صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة". متفق عليه(1). ولا يلزم من ثبوت الفضل فيها أن تكون غير واجبة؛ إذ إن التوحيد أوجب الواجبات، ولا تقبل الأعمال إلا به، ولا يتقرب العبد إلى ربه إلا به، ومع ذلك؛ ففيه فضل. قوله: "وما يكفر من الذنوب". معطوف على "فضل"؛ فيكون المعنى: باب فضل التوحيد، وباب ما يكفر من الذنوب، وعلى هذا؛ فالعائد محذوف والتقدير ما يكفره من الذنوب، وعقد هذا الباب لأمرين: الأول: بيان فضل التوحيد. الثاني: بيان ما يكفره من الذنوب، لأن من آثار فضل التوحيد تكفير الذنوب. فمن فوائد التوحيد 1- أنه أكبر دعامة للرغبة في الطاعة؛ لأن الموحد يعمل لله - سبحانه وتعالى - ؛ وعليه، فهو يعمل سراً وعلانية، أما غير الموحد؛ كالمرائي مثلاً، فإنه يتصدق ويصلى، ويذكر الله إذا كان عنده من يراه فقط، ولهذا قال بعض السلف: "إني لأود أن أتقرب إلى الله بطاعة لا يعلمها إلا هو". 2- أن الموحدين لهم الأمن وهم مهتدون؛ كما قال تعالى: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلمٍ أولئك لهم الأمن وهم مهتدون) [الأنعام: 82].
* * *
وقول الله تعالى: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) الآية [الأنعام: 82]. قوله: (لم يلبسوا)، أي: يخلطوا. قوله: (بظلمٍ)، الظلم هنا ما يقابل الإيمان، وهو الشرك، ولما نزلت هذه الآية شق ذلك على الصحابة، وقالوا: أينا لم يظلم نفسه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس الأمر كما تظنون، إنما المراد به الشرك، ألم تسمعوا إلى قول الرجل الصالح - يعني لقمان - : (إن الشرك لظلمٌ عظيم)"(1). والظلم أنواع 1- أظلم الظلم، وهو الشرك في حق الله. 2- ظلم الإنسان نفسه؛ فلا يعطيها حقها، مثل أن يصوم فلا يفطر، ويقوم فلا ينام. 3- ظلم الإنسان غيره، مثل أن يتعدى على شخص بالضرب، أو القتل، أو أخذ مال، أو ما أشبه ذلك. وإذا انتفى الظلم، حصل الأمن، لكن هل هو أمنٌ كامل؟ الجواب: أنه إن كان الإيمان كاملاً لم يخالطه معصيةٌ؛ فالأمن أمنٌ مطلق، أي كامل، وإذا كان الإيمان مطلق إيمانٍ - غير كامل ـ؛ فله مطلق الأمن؛ أي: أمن ناقص. مثال ذلك: مرتكب الكبيرة، أمنٌ من الخلود في النار، وغير آمن من العذاب، بل هو تحت المشيئة، قال الله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) [النساء: 116]. وهذه الآية قالها الله تعالى حكماً بين إبراهيم وقومه حين قال لهم: (وكيف أخاف ما أشركتم...) إلى قوله: (إن كنتم تعلمون) [الأنعام: 81،82]؛ فقال الله تعالى: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم…) الآية [الأنعام: 82]، على أنه قد يقول قائلٌ: إنها من كلام إبراهيم ليبين لقومه، ولهذا قال بعدها: (وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه) [ الأنعام 83]. قوله: (الأمن)، أل فيها للجنس، ولهذا فسرنا الأمن بأنه إما أمن مطلق، وإما مطلق أمن حسب الظلم الذي تلبس به. قوله: (وهم مهتدون)، أي: في الدنيا إلى شرع الله بالعلم والعمل؛ فالاهتداء بالعلم هداية الإرشاد كما قال الله تعالى في أصحاب الجحيم: (احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم) [الصافات: 42]. والاهتداء بالعمل: هداية توفيق، وهم مهتدون في الآخرة إلى الجنة. فهذه هداية الآخرة، وهي للذين ظلموا إلى صراط الجحيم؛ فيكون مقابلها أن الذين آمنوا ولم يظلموا يهدون إلى صراط النعيم. وقال كثير من المفسرين في قوله تعالى: (أولئك لهم الأمن): إن الأمن في الآخرة، والهداية في الدنيا، والصواب أنها عامةٌ بالنسبة للأمن والهداية في الدنيا والآخرة. مناسبة الآية للترجمة: أن الله أثبت الأمن لمن لم يشرك ، والذي لم يشرك يكون موحدا ؛ فدل على أن من فضائل التوحيد استقرار الأمن.
* * *
عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبدالله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق، والنار حق؛ أدخله الله الجنة على ما كان من العمل" أخرجاه(1). قوله: "من شهد أن لا اله إلا الله" ، الشهادة لا تكون إلا عن علم سابق ، قال تعالى: (إلا من شهد بالحق وهم يعلمون) [الزخرف: 86]، وهذا العلم قد يكون مكتسباً وقد يكون غريزياً. فالعلم بأنه لا إله إلا الله غريزيٌ، قال صلى الله عليه وسلم: "كل مولودٍ يولد على الفطرة"(2). وقد يكون مكتسباً، وذلك بتدبر آيات الله، والتفكر فيها. ولابد أن يوجد العلم بلا إله إلا الله ثم الشهادة بها. قوله: (أنْ)، مخففة من الثقيلة، والنطق بأن مشددة خطأٌ، لأن المشددة لا يمكن حذف اسمها، والمخفّفة يمكن حذفه. قوله: (لا إله)، أي: لا مألوه، وليس بمعنى لا آله، والمألوه: هو المعبود محبةً وتعظيماُ، تحبه وتعظمه لما تعلم من صفاته العظيمة وأفعاله الجليلة. قوله: (إلا الله)، أي: لا مألوه إلا الله، ولهذا حكي عن قريش قولهم: (أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيءٌ عجابٌ) [ص: 5]. أما قوله تعالى: (فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء) [هود: 101]، فهذا التأله باطل؛ لأنه بغير حق، فهو منفيٌ شرعاً، وإذا انتفى شرعاً؛ فهو كالمنتفي وقوعاً؛ فلا قرار له، (ومثل كلمة خبيثة كشجرةٍ خبيثةٍ اجتثت من فوق الأرض ما لها قرار) [إبراهيم: 26]. وبهذا يحصل الجمع بين قوله تعالى: (فما أغنت عنهم آلهتهم) [هود: 101]، وقوله تعالى حكايةً عن قريش: (أجعل الآلهة إلهاً واحداً) [ص: 5]، وبين قوله تعالى: (وما من إله إلا الله) [آل عمران: 62]؛ فهذه الآلهة مجرد أسماء لا معاني لها ولا حقيقة؛ إذ هي باطلة شرعاً، لا تستحق أن تسمى آلهة؛ لأنها لا تنفع ولا تضر، ولا تخلق ولا ترزق؛ كما قال تعالى: (ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان) [يوسف: 40]. * التوحيد عند المتكلمين: يقولون: إن معنى إله: آله، والآله: القادر على الاختراع؛ فيكون معنى لا إله إلا الله: لا قادر على الاختراع إلا الله. والتوحيد عندهم: أن توحد الله، فتقول: هو واحد في ذاته، لا قسيم له، وواحد في أفعاله لا شريك له، وواحد في صفاته لا شبيه له، ولو كان هذا معنى لا إله إلا الله؛ لما أنكرت قريش على النبي صلى الله عليه وسلم دعوته ولآمنت به وصدقت؛ لأن قريشاً تقول: لا خالق إلا الله، ولا خالق أبلغ من كلمة لا قادر، لأن القادر قد يفعل وقد لا يفعل، أما الخالق؛ فقد فعل وحقق بقدرة منه، فصار فهم المشركين خيراً من فهم هؤلاء المتكلمين والمنتسبين للإسلام؛ فالتوحيد الذي جاءت به الرسل في قوله تعالى: (ما لكم من إله غيره) [الأعراف: 59]؛ أي من إله حقيقي يستحق أن يعبد، وهو الله. ومن المؤسف أنه يوجد كثير من الكتاب الآن الذين يكتبون في هذه الأبواب تجدهم عندما يتكلمون على التوحيد لا يقررون أكثر من توحيد الربوبية، وهذا غلط ونقص عظيم، ويجب أن نغرس في قلوب المسلمين توحيد الألوهية أكثر من توحيد الربوبية، لأن توحيد الربوبية لم ينكره أحد إنكاراً حقيقياً، فكوننا لا نقرر إلا هذا الأمر الفطري المعلوم بالعقل، ونسكت عن الأمر الذي يغلب فيه الهوى هو نقص عظيم، فعبادة غير الله هي التي يسيطر فيها هوى الإنسان على نفسه حتى يصرفه عن عبادة الله وحده، فيعبد الأولياء ويعبد هواه، حتى جعل النبي صلى الله عليه وسلم الذي همه الدرهم والدينار ونحوهما عابداً (1)، وقال الله - عز وجل ـ: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه) [الجاثية: 23]. فالمعاصي من حيث المعنى العام أو الجنس العام يمكن أن نعتبرها من الشرك. وأما بالمعنى الأخص؛ فتنقسم إلى أنواع: 1- شرك أكبر. 2- شرك أصغر. 3- معصية كبيرة. 4- معصية صغيرة. وهذه المعاصي منها ما يتعلق بحق الله، ومنها ما يتعلق بحق الإنسان نفسه، ومنها ما يتعلق بحق الخلق. وتحقيق لا إله إلا الله أمر في غاية الصعوبة، ولهذا قال بعض السلف: "كل معصية، فهي نوع من الشرك". وقال بعض السلف: "ما جاهدت نفسي على شيء مجاهدتها على الإخلاص"، ولا يعرف هذا إلا المؤمن، أما غير المؤمن؛ فلا يجاهد نفسه على الإخلاص، ولهذا قيل لابن عباس: "إنّ اليهود يقولون: نحن لا نوسوس في الصلاة. قال: فما يصنع الشيطان بقلبٍ خرب؟!"؛ فالشيطان لا يأتي ليخرّب المهدوم، ولكن يأتي ليخرّب المعمور، ولهذا لما شُكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن الرجل يجد في نفسه ما يستعظم أن يتكلم به؛ قال: "وجدتم ذلك؟". قالوا: نعم. قال: "ذاك صريح الإيمان"(1)؛ أي: أن ذاك هو العلامة البينة على أنّ إيمانكم صريح لأنّه ورد عليه، ولا يرد إلا على قلب صحيح خالص. قوله: "من شهد أن لا إله إلا الله"، من: شرطية، وجواب الشرط: "أدخله الله الجنة على ما كان من العمل". والشهادة: هي الاعتراف باللسان، والاعتقاد بالقلب، والتصديق بالجوارح، ولهذا لما قال المنافقون للرسول صلى الله عليه وسلم: (نشهد إنّك لرسول الله) [المنافقون: 1] وهذه جملة مؤكدة بثلاث مؤكدات: الشهادة، وإن، واللام، كذبهم الله بقوله: (والله يعلم إنّك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون) [المنافقون: 1]؛ فلم ينفعهم هذا الإقرار باللسان لأنه خالٍ من الاعتقاد بالقلب، وخالٍ من التصديق بالعمل، فلم ينفع؛ فلا تتحقق الشهادة إلا بعقيدة في القلب، واعتراف باللسان، وتصديق بالعمل. وقوله: "لا إله إلا الله"، أي: لا معبود على وجه يستحق أن يعبد إلا الله، وهذه الأصنام التي تعبد لا تستحق العبادة؛ لأنه ليس فيها من خصائص الألوهية شيء. قوله: (وحده لا شريك له)، وحده: توكيد للإثبات، لا شريك له: توكيد للنفي في كل ما يختص به من الربوبية والألوهية والأسماء والصفات. ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من المؤمنين يلجؤون إلى الله تعالى عند الشدائد؛ فقد جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أصحابه، وقد علق سيفه على شجرة فاخترطه الأعرابي، وقال: من يمنعك مني؟ قال: "يمنعني الله"(2)، ولم يقل أصحابي، وهذا هو تحقيق توحيد الربوبية؛ لأن الله هو الذين يملك النفع، والضر، والخلق، والتدبير، والتصرف في الملك؛ إذ لا شريك له فيما يختص به من الربوبية والألوهية والأسماء والصفات.
--------------------------------------------------------------------------------
(1) البخاري: كتاب الجماعة والإمامة/ باب فضل صلاة الجماعة، ومسلم: كتاب المساجد/ باب فضل صلاة الجماعة. (1) البخاري: كتاب الإيمان/ باب ظلم دون ظلم، مسلم: كتاب الإيمان/ باب صدق الإيمان وإخلاصه. (1) البخاري: كتاب أحاديث الأنبياء/ باب قوله تعالى: )يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم(، ومسلم: كتاب الإيمان/ باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة. (2) البخاري: كتاب الجنائز/ باب ما قيل في أولاد المشركين، ومسلم: كتاب القدر/ باب معنى كل مولود يولد على الفطرة. (1) سبق تخريجه (ص 23). (1) مسلم: كتاب الإيمان/ باب الوسوسة في الإيمان. (2) البخاري: كتاب المغازي/ باب غزوة ذات الرقاع، ومسلم: كتاب صلاة المسافرين/ باب صلاة الخوف.