روى البخاريُّ ومسلمٌ عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : " انْطَلَقَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ ، حَتَّى أَوَوْا المَبِيتَ إِلَى غَارٍ (1) ، فَدَخَلُوهُ فَانْحَدَرَتْ صَخْرَةٌ مِنَ الجَبَلِ ، فَسَدَّتْ عَلَيْهِمُ الغَارَ ؛ فَقَالُوا : إِنَّهُ لاَ يُنْجِيكُمْ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ إِلَّا أَنْ تَدْعُوا اللَّهَ بِصَالِحِ أَعْمَالِكُمْ (2) ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ : اللَّهُمَّ كَانَ لِي أَبَوَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ ، وَكُنْتُ لاَ أَغْبِقُ قَبْلَهُمَا أَهْلًا ، وَلاَ مَالًا (3) ؛ فَنَأَى بِي (4) فِي طَلَبِ شَيْءٍ (5) يَوْمًا ، فَلَمْ أُرِحْ عَلَيْهِمَا (6) حَتَّى نَامَا (7) ، فَحَلَبْتُ لَهُمَا غَبُوقَهُمَا ، فَوَجَدْتُهُمَا نَائِمَيْنِ ، وَكَرِهْتُ أَنْ أَغْبِقَ قَبْلَهُمَا أَهْلًا أَوْ مَالًا ، فَلَبِثْتُ وَالقَدَحُ عَلَى يَدَيَّ ، أَنْتَظِرُ اسْتِيقَاظَهُمَا حَتَّى بَرَقَ الفَجْرُ، فَاسْتَيْقَظَا، فَشَرِبَا غَبُوقَهُمَا ، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ ، فَفَرِّجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ ، فَانْفَرَجَتْ شَيْئًا لاَ يَسْتَطِيعُونَ الخُرُوجَ "،
____________
(1) في رواية : " حَتَّى آوَاهُمُ الْمَبِيتُ إِلَى غَارٍ " . وفي رواية : " بَيْنَمَا ثَلاَثَةُ نَفَرٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ يَمْشُونَ، إِذْ أَصَابَهُمْ مَطَرٌ ، فَأَوَوْا إِلَى غَارٍ".
(2) وفي رواية : " فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: إِنَّهُ وَاللَّهِ يَا هَؤُلاَءِ، لاَ يُنْجِيكُمْ إِلَّا الصِّدْقُ، فَليَدْعُ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ بِمَا يَعْلَمُ أَنَّهُ قَدْ صَدَقَ فِيهِ".
(3) أي : كنتُ لا أقدم عليهما في شربِ اللبن أهلاً ولا غيرهم . والغبوق : شرب العشاء ، والصبوح : شرب أول النهار . وفي رواية : " فَكُنْتُ آتِيهِمَا كُلَّ لَيْلَةٍ بِلَبَنِ غَنَمٍ لِي، فَأَبْطَأْتُ عَلَيْهِمَا لَيْلَةً، فَجِئْتُ وَقَدْ رَقَدَا وَأَهْلِي وَعِيَالِي يَتَضَاغَوْنَ مِنَ الجُوعِ، فَكُنْتُ لاَ أَسْقِيهِمْ حَتَّى يَشْرَبَ أَبَوَايَ ؛ فَكَرِهْتُ أَنْ أُوقِظَهُمَا، وَكَرِهْتُ أَنْ أَدَعَهُمَا، فَيَسْتَكِنَّا لِشَرْبَتِهِمَا ، فَلَمْ أَزَلْ أَنْتَظِرُ حَتَّى طَلَعَ الفَجْرُ ". أي : فيَضعُفا بسبب عدم شربهما . (4) أي : بعد . (5) وفي رواية لمسلمٍ : الشجر . (6) أي : لم أَرُدَّ الماشية من المرعى إلى حظائرها وموضع مبيتها .
(7) في الرواية الآتية : " وَأَنَّهُ نَأَى بِي ذَاتَ يَوْمٍ الشَّجَرُ ؛ فَلَمْ آتِ حَتَّى أَمْسَيْتُ ؛ فَوَجَدْتُهُمَا قَدْ نَامَا " .
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " وَقَالَ الآخَرُ : اللَّهُمَّ كَانَتْ لِي بِنْتُ عَمٍّ ، كَانَتْ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَيَّ، فَأَرَدْتُهَا عَنْ نَفْسِهَا ، فَامْتَنَعَتْ مِنِّي ؛ حَتَّى أَلَمَّتْ بِهَا سَنَةٌ (1) مِنَ السِّنِينَ ، فَجَاءَتْنِي ، فَأَعْطَيْتُهَا عِشْرِينَ وَمِائَةَ دِينَارٍ عَلَى أَنْ تُخَلِّيَ بَيْنِي وَبَيْنَ نَفْسِهَا، فَفَعَلَتْ ؛ حَتَّى إِذَا قَدَرْتُ عَلَيْهَا، قَالَتْ : لاَ أُحِلُّ لَكَ أَنْ تَفُضَّ الخَاتَمَ إِلَّا بِحَقِّهِ ، فَتَحَرَّجْتُ مِنَ الوُقُوعِ عَلَيْهَا، فَانْصَرَفْتُ عَنْهَا ، وَهِيَ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ ، وَتَرَكْتُ الذَّهَبَ الَّذِي أَعْطَيْتُهَا ، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ، فَافْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ ، فَانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ ، غَيْرَ أَنَّهُمْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ الخُرُوجَ مِنْهَا " . قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " وَقَالَ الثَّالِثُ : اللَّهُمَّ إِنِّي اسْتَأْجَرْتُ أُجَرَاءَ ، فَأَعْطَيْتُهُمْ أَجْرَهُمْ غَيْرَ رَجُلٍ وَاحِدٍ تَرَكَ الَّذِي لَهُ وَذَهَبَ ، فَثَمَّرْتُ أَجْرَهُ حَتَّى كَثُرَتْ مِنْهُ الأَمْوَالُ ، فَجَاءَنِي بَعْدَ حِينٍ فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ أَدِّ إِلَيَّ أَجْرِي ، فَقُلْتُ لَهُ: كُلُّ مَا تَرَى مِنْ أَجْرِكَ مِنَ الإِبِلِ وَالبَقَرِ وَالغَنَمِ وَالرَّقِيقِ ، فَقَالَ : يَا عَبْدَ اللَّهِ لاَ تَسْتَهْزِئُ بِي ، فَقُلْتُ : إِنِّي لاَ أَسْتَهْزِئُ بِكَ ، فَأَخَذَهُ كُلَّهُ ، فَاسْتَاقَهُ ، فَلَمْ يَتْرُكْ مِنْهُ شَيْئًا ، اللَّهُمَّ فَإِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ ، فَافْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ ، فَانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ ، فَخَرَجُوا يَمْشُونَ " ، وفي رواية مسلم : "فَخَرَجُوا مِنَ الْغَارِ يَمْشُونَ".
• وفي رواية مطولة لمسلمٍ :
" بَيْنَمَا ثَلَاثَةُ نَفَرٍ يَتَمَشَّوْنَ أَخَذَهُمُ الْمَطَرُ ، فَأَوَوْا إِلَى غَارٍ فِي جَبَلٍ ، فَانْحَطَّتْ عَلَى فَمِ غَارِهِمْ صَخْرَةٌ مِنَ الْجَبَلِ ، فَانْطَبَقَتْ عَلَيْهِمْ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ : انْظُرُوا أَعْمَالًا عَمِلْتُمُوهَا صَالِحَةً لِلَّهِ ،
___________
(1) العام المقحط الذي لم تنبت الأرض فيه شيئًا ؛ سواء نزل فيه الغيث أم لم ينزل .
فَادْعُوا اللهَ تَعَالَى بِهَا ، لَعَلَّ اللهَ يَفْرُجُهَا عَنْكُمْ ؛ فَقَالَ أَحَدُهُمْ : اللهُمَّ إِنَّهُ كَانَ لِي وَالِدَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ ، وَامْرَأَتِي ، وَلِي صِبْيَةٌ صِغَارٌ أَرْعَى عَلَيْهِمْ ، فَإِذَا أَرَحْتُ عَلَيْهِمْ (1) ، حَلَبْتُ، فَبَدَأْتُ بِوَالِدَيَّ ، فَسَقَيْتُهُمَا قَبْلَ بَنِيَّ ، وَأَنَّهُ نَأَى بِي ذَاتَ يَوْمٍ الشَّجَرُ ، فَلَمْ آتِ حَتَّى أَمْسَيْتُ، فَوَجَدْتُهُمَا قَدْ نَامَا، فَحَلَبْتُ كَمَا كُنْتُ أَحْلُبُ ، فَجِئْتُ بِالْحِلَابِ (2)، فَقُمْتُ عِنْدَ رُءُوسِهِمَا أَكْرَهُ أَنْ أُوقِظَهُمَا مِنْ نَوْمِهِمَا ، وَأَكْرَهُ أَنْ أَسْقِيَ الصِّبْيَةَ قَبْلَهُمَا، وَالصِّبْيَةُ يَتَضَاغَوْنَ (3) عِنْدَ قَدَمَيَّ ، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبِي وَدَأْبَهُمْ (4) حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ ؛ فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ ؛ فَافْرُجْ لَنَا مِنْهَا فُرْجَةً ، نَرَى مِنْهَا السَّمَاءَ ، فَفَرَجَ اللهُ مِنْهَا فُرْجَةً ، فَرَأَوْا مِنْهَا السَّمَاءَ ، وَقَالَ الْآخَرُ: اللهُمَّ إِنَّهُ كَانَتْ لِيَ ابْنَةُ عَمٍّ أَحْبَبْتُهَا كَأَشَدِّ مَا يُحِبُّ الرِّجَالُ النِّسَاءَ ، وَطَلَبْتُ إِلَيْهَا نَفْسَهَا ، فَأَبَتْ حَتَّى آتِيَهَا بِمِائَةِ دِينَارٍ، فَتَعِبْتُ حَتَّى جَمَعْتُ مِائَةَ دِينَارٍ، فَجِئْتُهَا بِهَا ، فَلَمَّا وَقَعْتُ بَيْنَ رِجْلَيْهَا (5) ، قَالَتْ : يَا عَبْدَ اللهِ اتَّقِ اللهَ ، وَلَا تَفْتَحِ الْخَاتَمَ (6) إِلَّا بِحَقِّهِ ، فَقُمْتُ عَنْهَا (7) ، فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ ، فَافْرُجْ لَنَا مِنْهَا فُرْجَةً ، فَفَرَجَ لَهُمْ ، وَقَالَ الْآخَرُ : اللهُمَّ إِنِّي كُنْتُ
_____________
(1) أي : إذا رددت الماشية من المرعى إليهم وإلى موضع مبيتها وهو مُراحها . قاله النووي ، وما سيأتي منه .
(2) هو الإناء الذي يحلب فيه ، أو اللبن المحلوب .
(3) أي يصيحون ويستغيثون من الجوع .
(4) أي : حالي اللازمة .
(5) أي : جلستُ منها مجلس الرجلِ للوقاع .
(6) في رواية : " وَلاَ تَفُضَّ الخَاتَمَ " . الخاتم كناية عن بكارتها ، وقولها بحقه ؛ أي : بنكاح لا بزنى .
(7) وفي رواية : " فَقُمْتُ وَتَرَكْتُ المِائَةَ دِينَارٍ " .
اسْتَأْجَرْتُ أَجِيرًا بِفَرَقِ (1) أَرُزٍّ، فَلَمَّا قَضَى عَمَلَهُ قَالَ: أَعْطِنِي حَقِّي ، فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ فَرَقَهُ ؛ فَرَغِبَ عَنْهُ (2) ؛ فَلَمْ أَزَلْ أَزْرَعُهُ حَتَّى جَمَعْتُ مِنْهُ بَقَرًا وَرِعَاءَهَا، فَجَاءَنِي ؛ فَقَالَ : اتَّقِ اللهَ وَلَا تَظْلِمْنِي حَقِّي ، قُلْتُ : اذْهَبْ إِلَى تِلْكَ الْبَقَرِ وَرِعَائِهَا ، فَخُذْهَا ؛ فَقَالَ : اتَّقِ اللهَ وَلَا تَسْتَهْزِئْ بِي ؛ فَقُلْتُ : إِنِّي لَا أَسْتَهْزِئُ بِكَ ، خُذْ ذَلِكَ الْبَقَرَ وَرِعَاءَهَا ، فَأَخَذَهُ فَذَهَبَ بِهِ ، فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ ، فَافْرُجْ لَنَا مَا بَقِيَ ؛ فَفَرَجَ اللهُ مَا بَقِيَ". وفي رواية : " فَفَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَخَرَجُوا ".
قال العلامة الألبانيُّ في كتابه الطيِّبِ : "التوسل" : " ويتضح من هذا الحديث : أن هؤلاء الرجال المؤمنين الثلاثة حينما اشتد بهم الكرب، وضاق بهم الأمر، ويئسوا من أن يأتيهم الفرج من كل طريق إلا طريق الله تبارك وتعالى وحده، فلجأوا إليه، ودعوه بإخلاص ، واستذكروا أعمالاً لهم صالحة، كانوا تعرفوا فيها إلى الله في أوقات الرخاء، راجين أن يتعرف إليهم ربهم مقابلها في أوقات الشدة، كما ورد في حديث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي فيه : " .. تَعَرَّفْ إِلَيْهِ فِي الرَّخَاءِ ، يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ "؛ فتوسلوا إليه - سبحانه - بتلك الأعمال ؛ توسل الأول ببره والديه، وعطفه عليهما، ورأفته الشديدة بهما حتى كان منه ذلك الموقف الرائع الفريد، وما أحسب إنساناً آخر ، - حاشا الأنبياء ـ يصل بره بوالديه إلى هذا الحد ".
(لأمِّكَ حَقٌّ لو علِمْتَ كبيرُ كَثيرُكَ يا هذا لدَيهِ يسيرُ
فكمْ ليلةٍ باتَتْ بثِقْلِكَ تشتكِي لَها مِن جَوَاها أنَّةٌ وزفيرُ
_____________
(1) وهو إناءٌ (مكيال) يتسع ثلاثة آصع .
(2) أي : كرهه ، وسخطه ، وتركه .
وفِي الوَضعِ لو تدرِي عليْكَ مشقةٌ فكمْ غُصَصٍ منها الفؤادُ يطيرُ
وكمْ غسلَتْ عنكَ الأذَى بيمينِهَا وما حجْرها إلا لديك سريرُ
وتفديك مما تشتكيه بنفسها ومِن ثَدْيِها شُربٌ لدَيْك نَمِيرُ
وكم مَرّةٍ جاعَتْ وأعطَتْكَ قُوتَها حُنُوًّا وإشفاقًا وأنتَ صغيرُ
فَضَيَّعْتَهَا لَما أسَنّتْ جَهَالةً وطالَ عليكَ الأمرُ وهو قصيرُ
فآهًا لذي عقلٍ ويتَّبِعُ الهوى وآهًا لأعمى القلب وهو بصيرُ
فَدُونَكَ فارغبْ فِي عَمِيمِ دُعائِهَا فأنت لِما تَدْعو إليه فقيرُ)
(لقد قرن البر للوالدين بتوحيده تبارك وتعالى ؛ فقال سبحانه : ( وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ) [الإسراء:23] .
وبين النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّ برَّ الوالدين أحبُّ الأعمال الصالحة بعد فريضة الصلاة وقبل الجهاد ؛ ففي «الصحيحين» من حديث ابن مسعود قال : سَأَلْتُ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَيٌّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى الله ? قَالَ: «الصَّلاَةُ لوَقْتِهَا» . قُلْتُ : ثُمَّ أَيٌّ ؟ قَالَ : «بِرُّ الْوَالِدَيْنِ». قُلْتُ : ثُمَّ أَيٌّ ؟ قَالَ : «الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ الله».
وروى البخاريُّ ومسلمٌ من حديث عبد الله بن عمرو قال : أَقْبَلَ رَجُلٌ إِلَى نَبِيِّ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ فَقَالَ : أُبَايِعُكَ عَلَى الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ، أَبْتَغِي الأَجْرَ مِنَ الله ؛ فَقَالَ له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «فَهَلْ مِنْ وَالِدَيْكَ أَحَدٌ حَيٌّ؟». قَالَ : نَعَمْ ؛ بَلْ كِلاَهُمَا. قَالَ : «فَتَبْتَغِي الأَجْرَ مِنَ الله» ، قَالَ : نَعَمْ . قَالَ: «فَارْجِعْ إِلَى وَالِدَيْكَ فَأَحْسِنْ صُحْبَتَهُمَا» . وفي روايةٍ : «أَحَيٌّ وَالِدَاكَ؟»، قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ: «فَفِيهِمَا فَجَاهِد». وفي رواية : قال الرجلُ : جِئْتُ أُبَايِعَكَ عَلَى الْهِجْرَةِ ، وَتَرَكْتُ أَبَوَيَّ يَبْكِيَانِ ؛ قَالَ صلى الله عليه وسلم : «فَارْجِعْ إِلَيْهِمَا، فَأَضْحِكْهُمَا كَمَا أَبْكَيْتَهُمَا».
والبر سببٌ لدخول الجنة ، والنجاة من النيران ؛ ففي «صحيح» مسلم من حديث أبي هريرة أن النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال : «رَغِمَ أَنْفُهُ، رَغِمَ أَنْفُهُ، رَغِمَ أَنْفُهُ». قيل : منْ يا رسول الله ؟ قال : «مَنْ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ عِنْدَ الْكِبَرِ أَحَدَهُمَا أَوْ كِلَيْهِمَا ثُمَّ لَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ».
وفي «مسند» أحمد ، و «سنن» النسائي ، بسندٍ صحيح من حديث أم المؤمنين عائشة أن النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال : «دَخَلْتُ الْجَنَّةَ فَسَمِعْتُ فِيهَا قِرَاءَةً، قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا : حَارِثَةُ بْنُ النُّعْمَانِ ؛ فَقَالَ : كَذَاكُمُ الْبِرُّ، كَذَاكُمُ الْبِرُّ» ، وكانَ حارثةُ أبرَّ النَّاسِ بأمهِ .
فإذا أردت أن يفرج كربك ، وأن يكشف غمك ، وأن يُكَثِّرَ رزقك ، اعلم أن مفتاح هذا الخير في يدك وأنت تجهله ؛ فإن أردتَ ذلك ؛ فعليك ببر الوالدين) .
ثم قال الألبانيُّ – رحمه الله - : " وتوسل الثاني بعفته من الزنى بابنة عمه التي أحبها كأشد ما يحب الرجال النساء ، بعدما قدر عليها ، واستسلمت له مكرهة ، بسبب الجوع والحاجة، ولكنها ذكرته بالله - عزَّ وجلَّ - ، فتذكَّر قلبه ، وخشعت جوارحه ، وتركها والمالَ الذي أعطاها ". انتهى .
أيها المسلمون .. إن أعظم فتنة بني إسرائيل كانت في النساء ؛ فاتقوا الدنيا واتقوا النساء ؛ ففي " صحيح " مسلمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ : « إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وَإِنَّ اللهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا، فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ، فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ » ؛ أي : احذروا هذه الفتنة العارمة التي تُطيحُ بأقوى الرجالِ أرضًا !!
فأعظمُ فتنةٍ للرجالِ هي فتنةُ النساءِ ؛ ففي الصحيحين عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً هِيَ أَضَرُّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ".
ففتنة النساء تذهبُ بالدينِ وبالعقول ! كما في الصحيحين عن أبي سعيدٍ الخدري رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلمَ قال : " مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ الحَازِمِ مِنْ إِحْدَاكُنَّ " .
فمهما كان الرجل من العقلاء ؛ إن عرَّض نفسه للنساء ؛ فقلَّما ينْجُو أو يَسْلمُ ، وصدق من قال : لو ائْتُمنتُ على خزائنِ الأرض لوجدتني أمينًا عليها ، ولو ائتمنتُ على جاريةٍ سوداء ما وجدتني أمينًا عليها !! فانظر إلى خطورة هذه الفتنة على الرجال ؟!!
ولله درُّ القائل :
قل للمليحة في الخمار الأسود ماذا فعلت بناسكٍ متعبدٍ
قد كان شمر للصلاة ثيابه حتى عرضت له بباب المسجد
ردي عليه صلاته وصيامه لا تفتنيه بحق ربِّ محمد
فكم من البيوت خربت بسبب فتنة النساء . وكم من مجتمعاتٍ وقرىً دُمِّرت بسبب فتنة النساء !!
وكم ذهب دينُ شخصٍ بسببِ امرأة !! وقد قائلُ الغربِ الكافرِ : كأسٌ وغانيةٌ يفعلان في الأمة المسلمةِ ما لا يفعلُه ألفُ مِدفعٍ !!
ولكنْ مع كلِّ هذا ؛ فإنَّ صاحبَ الفطرة السوية ، وإنَّ صالحَ الطويةِ إذا ذُكِّر بالله تذكر ؛ ففي مسند أحمد عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: إِنَّ فَتًى شَابًّا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، ائْذَنْ لِي بِالزِّنَا، فَأَقْبَلَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ فَزَجَرُوهُ وَقَالُوا: مَهْ. مَهْ. فَقَالَ: " ادْنُهْ، فَدَنَا مِنْهُ قَرِيبًا ". قَالَ: فَجَلَسَ قَالَ: " أَتُحِبُّهُ لِأُمِّكَ؟ " قَالَ: لَا. وَاللهِ جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ. قَالَ: " وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأُمَّهَاتِهِمْ ". قَالَ: " أَفَتُحِبُّهُ لِابْنَتِكَ؟ " قَالَ: لَا. وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ قَالَ: " وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ ". قَالَ: " أَفَتُحِبُّهُ لِأُخْتِكَ؟ " قَالَ: لَا. وَاللهِ جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ. قَالَ: " وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأَخَوَاتِهِمْ ". قَالَ: " أَفَتُحِبُّهُ لِعَمَّتِكَ؟ " قَالَ: لَا. وَاللهِ جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ. قَالَ: " وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِعَمَّاتِهِمْ ". قَالَ: " أَفَتُحِبُّهُ لِخَالَتِكَ؟ " قَالَ: لَا. وَاللهِ جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ. قَالَ: " وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِخَالَاتِهِمْ ". قَالَ: فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ وَقَالَ: " اللهُمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ وَطَهِّرْ قَلْبَهُ، وَحَصِّنْ فَرْجَهُ " قَالَ: فَلَمْ يَكُنْ بَعْدُ ذَلِكَ الْفَتَى يَلْتَفِتُ إِلَى شَيْءٍ.
فالشرفُ كلُّ الشَّرفِ لمن صان نفسه وعرضه ، ولم يُتبع نفسَهُ هواها ؛ ففي الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ، يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: الإِمَامُ العَادِلُ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي المَسَاجِدِ، وَرَجُلاَنِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ، فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ، أَخْفَى حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ ".
وأعظمُ من نَالَ هذا الشَّرفَ الكبيرَ نبيُّ اللهِ يوسفُ عليه السلام ؛ فقد قال - تعالى - : (وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ) .
وهكذا هذه المرأة العفيفة ، (فكم من النساء من هنَّ عفيفاتٌ محصناتٌ مؤمناتٌ قانتاتٌ طاهراتٌ) وكذلك الرجل كانَ عفيفًا ؛ فلما قالت له ابنة عمه : (اتق الله ولا تفضَّ - ولا تفتحْ - الخاتم إلا بحقِّهِ) . فارتعد ، ونزع ، وقام ، وانصرف ، وخاف الله ، واليوم الآخر . وقدَّم رضَا اللهِ وثوابَهُ على شَهْوتهِ الرخيصةِ ، ونزواته الحقيرة . فتركها والمال والذهبَ الذي تعب في تحصيله وجمعهِ ؛ كره المعصية وأسبابها !! (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) .
وللصبر اليوم عن معاصي الله خيرٌ من الأغلال في نار جهنم .
لا خيرَ في لذةٍ من بعدها النار !! قال تعالى : (وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا) .
روى البخاريُّ عن سهل بن سعد الساعديِّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال : " عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَضْمَنْ لَهُ الجَنَّةَ ".
(قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ) .
• الأمانة التي قال فيها : (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) . ولأهمية الأمانة قال كلُّ رسولٍ لقومه : (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) . والأمانة في كلِّ شيء أمرٌ متحتمٌ في التجارة ، في الإجارة ، في الصناعة ، في أيِّ عملٍ دنيويٍّ كانَ أو أخرويٍّ ؛ قال تعالى : (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) . وقال - تعالى - : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) . ومن صفات المؤمنين : (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ) .
• ولقد ضاعت الأمانات وتاهت عند كثيرٍ من الناس ، وخربت كثيرٌ من الذمم في هذا الزمان !! عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : بَيْنَمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَجْلِسٍ يُحَدِّثُ القَوْمَ، جَاءَهُ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ فَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَدِّثُ ؛ فَقَالَ بَعْضُ القَوْمِ : سَمِعَ مَا قَالَ فَكَرِهَ مَا قَالَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ لَمْ يَسْمَعْ، حَتَّى إِذَا قَضَى حَدِيثَهُ قَالَ : « أَيْنَ - أُرَاهُ - السَّائِلُ عَنِ السَّاعَةِ» ، قَالَ : هَا أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ : « فَإِذَا ضُيِّعَتِ الأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ » ، قَالَ: كَيْفَ إِضَاعَتُهَا؟ قَالَ : « إِذَا وُسِّدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ » .
• لقد ضيعت الأمانةُ .. لكن انظر إلى صنيع هذا الرجلِ الأمين ؛ فسوف ترى عجبًا عجابًا ؟
قال الألباني - رحمه الله - : " وتوسل الثالث بحفاظه على حق أجيره الذي ترك أجرته التي كانت فَرَقاَ من أرز - كما ورد في رواية صحيحة للحديث - وذهب ، فنمَّاها له صاحب العمل، وثمَّرها حتى كانت منها الشاة والبقر والإبل والرقيق، فلما احتاج الأجير إلى المال ذكر أجرته الزهيدة عند صاحبه، فجاءه وطالبه بحقه، فأعطاه تلك الأموال كلها، فدهش وظنه يستهزىء به، ولكنه لما تيقن منه الجد، وعرف أنه ثمَّرَ له أجره حتى تجمعت منه تلك الأموال، استساقها فرحاً مذهولاً، ولم يترك منها شيئاً. وأيْم الله إن صنيع رب العمل هذا بالغ حد الروعة في الإحسان إلى العامل، ومحقق المثل الأعلى الممكن في رعايته وإكرامه، مما لا يصل إلى عشر معشاره موقف كل من يدعي نصرة العمال والكادحين، ويتاجر بدعوى حماية الفقراء والمحتاجين، وإنصافهم وإعطائهم حقوقهم. دعا هؤلاء الثلاثة ربهم سبحانه متوسلين إليه بهذه الأعمال الصالحة أي صلاح، والمواقف الكريمة أي كرم، معلنين أنهم إنما فعلوها ابتغاء رضوان الله تعالى وحده، لم يريدوا بها دنيا قريبة أو مصلحة عاجلة أو مالاً، ورجوا الله جل شأنه أن يفرج عنهم ضائقتهم، ويخلصهم من محنتهم، فاستجاب سبحانه دعاءهم، وكشف كربهم، وكان عند حسن ظنهم به، فخرق لهم العادات وأكرمهم بتلك الكرامة الظاهرة، فأزاح الصخرة بالتدرج على مراحل ثلاث، كلما دعا واحد منهم تنفرج بعض الانفراج حتى انفرجت تماماً مع آخر دعوة الثالث بعد أن كانوا في موت محقق. ورسولنا الكريم صلوات الله وسلامه عليه يروي لنا هذه القصة الرائعة التي كانت في بطون الغيب، لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى ليذكرنا بأعمال فاضلة مثالية لأناس فاضلين مثاليين من أتباع الرسل السابقين، لنقتدي بهم، ونتأسى بأعمالهم، ونأخذ من أخبارهم الدروس الثمينة، والعظات البالغة. ولا يقولن قائل: إن هذه الأعمال جرت قبل بعثة نبينا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلا تنطبق علينا بناء على ما هو الراجح في علم الأصول أن شرع من قبلنا ليس شرعاً لنا. لأننا نقول : إن حكاية النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهذه الحادثة إنما جاءت في سياق المدح والثناء، والتعظيم والتبجيل، وهذا إقرار منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك، بل هو أكثر من إقرار لما قاموا به من التوسل بأعمالهم الصالحة المذكورة، بل إن هذا ليس إلا شرحاً وتطبيقاً عملياً للآيات المتقدمة، وبذلك تتلاقى الشرائع السماوية في تعاليمها وتوجيهاتها، ومقاصدها وغاياتها، ولا غرابة في ذلك، فهي تنبع من معين واحد، وتخرج من مشكاة واحدة، وخاصة فيما يتعلق بحال الناس مع ربهم سبحانه ، فهي لا تكاد تختلف إلا في القليل النادر الذي يقتضي حكمة الله سبحانه تغييره وتبدليه " .
• قيمة ومكانة العمل الصالح :
إنَّ للعملِ الصالحِ مكانةً عاليةً ، ومنزلةً ساميةً ؛ فبدونهِ لا يستقيمُ الإيمانُ ؛ فالإيمانُ عند السلفِ : قولٌ باللسانِ ، وتصديقٌ بالجنانِ ، وعملٌ بالجوارح والأركان .
كلُّ إنسانٍ يستطيعُ أنْ يدَّعي أنه على التوحيد الكامل ، والإسلام الصحيحِ ، ولكن ما علامةُ إسلامهِ ، وما دليلُ إيمانهِ ؟
• فالعملُ الصالحُ هو علامةُ الإيمانِ ، وقد قرن اللهُ العملَ الصالحَ في آياتٍ كثيرةٍ بالإيمان للتلازم الذي بينهما ؛ فقال تعالى : (وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) . وقال تعالى : (وَأَمَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا) . وقال تعالى : (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) . وقال تعالى : (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا) . وقال تعالى : (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى) . وقال تعالى : (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا) . وقال تعالى : ( ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ ) .
• فبالعمل الصالح يحيا المرء حياةً طيبةً ؛ قال تعالى : (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) .
• وبالعمل الصالحِ تفرج الكروب ، وتكشف الهموم . " فَقَالُوا : إِنَّهُ لاَ يُنْجِيكُمْ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ إِلَّا أَنْ تَدْعُوا اللَّهَ بِصَالِحِ أَعْمَالِكُمْ " ، وفي رواية : " فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ : انْظُرُوا أَعْمَالًا عَمِلْتُمُوهَا صَالِحَةً لِلَّهِ ، فَادْعُوا اللهَ تَعَالَى بِهَا ، لَعَلَّ اللهَ يَفْرُجُهَا عَنْكُمْ ".
• وبالعمل الصالح يدخل العبدُ الجنةَ ؛ قال تعالى : (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا) . وقال تعالى : (إِلَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آَمِنُونَ) . (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) . وقال تعالى : (وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ) . وقال تعالى : (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) .
• (وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) . (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)