أقسام التوحيد ثلاثة :
ﻓ(الأول) : توحيد الربوبية :وهو إفراد الله مع الإقرار بأنه رب كل شيء وخالقه ومليكه والمدبر لأمور خلقه جميعهم فهو إفراد الله بأفعاله سبحانه .وتوحيد الربوبية مركوز في الفطر ،ولهذا أقر به أكثر الخلق ،لشدة ظهوره ،ولم ينكره إلا شواذ الخلق في الظاهر لا في الباطن كما قال فرعون{أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25)}النازعات:24-25.ولهذا أنكرت الرسل على من أنكر وجحد وجود الرب جل جلاله ،لأن وجوده أبين وأظهر وأوضح من ملايين الشموس التي لا تخفى إلا على الأعمى : {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}إبراهيم :10( ).فهذا هو المسمى بتوحيد الربوبية وهو مستقر في نفوس البشر ،لا ينازع فيه أحد من الناس ،مسلمًا كان أو كافرًا كما قال تعالى :{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}لقمان:25. وقال تعالى عنهم أيضًا:{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)} يوسف:106.
قال مجاهد :-رحمه الله –إيمانهم : قَوْلُهُمُ: اللَّهُ خَالِقُنَا، وَيَرْزُقُنَا، وَيُمِيتُنَا، فَهَذَا إِيمَانٌ مَعَ شِرْكِ عِبَادَتِهِمْ غَيْرَهُ "
(والثاني) توحيد الأسماء والصفات. وهو أن يوصف الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من صفات الكمال ونعوت الجلال، من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تحريف ولا تعطيل. فهو إفراد الله بأسمائه وصفاته.
(والثالث) توحيد الإلهية.وهو إفراد الله وحده بجميع أنواع العبادة التي شرعها .
مع إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، ويتعلق بأعمال العبد وأقواله الظاهرة والباطنة، خلاف ما زعمه المتكلمة والصوفية وغيرهم من أن المراد بالتوحيد مجرد توحيد الربوبية، وأنهم إذا أثبتوا ذلك فقد أثبتوا غاية التوحيد، وأن من أقر بما يستحقه -سبحانه- من الصفات، ونزهه عن كل ما نُزه عنه، وأقر أنه -سبحانه- خالق كل شيء فهو الموحّد، بل لا يكون موحدا حتى يشهد أن لا إله إلا الله وحده، ويقر أنه وحده هو الإله المستحق للعبادة; ويلتزم بعبادته وحده لا شريك له. وأقسام التوحيد الثلاثة متلازمة، فتوحيد الربوبية والأسماء والصفات مستلزم لتوحيد الألوهية ،وتوحيد الألوهية متضمن للربوبية والأسماء والصفات فكل نوع منها لا ينفك عن الآخر، فمتى أتى بنوع منها ولم يأت بالآخر لم يكن موحدا. والقسم الثالث هو مقصود المصنف-رحمه الله تعالى- بتصنيف هذا الكتاب، وإن كان قد ضمنه النوعين الآخرين؛ لأن هذا النوع هو أول دعوة الرسل:{ أن اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}الأعراف: 59. ، ولعموم البلوى في زمانه بعبادة القبور والأشجار وغيرها، ودعوة الأنبياء والأولياء والصالحين وغيرهم، فمن أجل ذلك صرف العناية في بيان ذلك.
وإن شئت قلت كما قال ابن القيم وغيره: التوحيد نوعان: توحيد في المعرفة والإثبات، وهو توحيد الربوبية والأسماء والصفات. وتوحيد في الطلب والقصد، وهو توحيد الإلهية والعبادة. وبهذا التوحيد ولأجله أرسلت الرسل، وأنزلت الكتب، بل كل سورة في القرآن فهي متضمنة لنوعي التوحيد، بل كل آية متضمنة للتوحيد شاهدة به داعية إليه؛ فإن القرآن إما خبر عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله وأقواله، وهو التوحيد العلمي الخبري.وإما دعوة إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وخلع ما يعبد دونه وهو الإرادي الطلبي. وإما أمر ونهي، وهو حقوق التوحيد ومكملاته. وإما خبر عن أهل التوحيد وجزائهم وأهل الشرك وجزائهم، فالقرآن كله في التوحيد وحقوقه وجزاء أهله, وفي الشرك وأهله وجزائهم .
وقد طعن بعض أهل البدع على أهل السنة في هذا التقسيم مدعين أنه من تقسيم شيخا الإسلام ابن تيمية وابن القيم وقد رد عليهم أهل العلم .
قال الشيخ بكر بن عبدالله أبوزيد :هذا التقسيم الاستقرائي لدى متقدمي علماء السلف: أشار إليه ابن منده, وابن جرير الطبري, وغيرهما, وقرره شيخا الإِسلام ابن تيمية وابن القيم, وقرره الزبيدي في «تاج العروس»وشيخنا الشنقيطي في «أضواء البيان»وآخرين رحم الله الجميع. وهو استقراء تام لنصوص الشرع, وهو مطرد لدى أهل كل فن كما في استقراء النحاة: لكلام العرب إلى (اسم, وفعل, وحرف) , والعرب لم تَفُهْ بهذا ولم يعتب على النحاة في ذلك عاتب, وهكذا من أنواع الاستقراء.