بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
مراقبة الله - عز وجل -
محاضرة مفرغة للشيخ الدكتور: خالد بن عثمان السبت
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد؛ فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
أيها الأحبة:
حديثنا في هذه الليلة عن موضوع يحتاج إليه الكبير والصغير والرجل والمرأة لا سيما في هذا الزمان الذي تكاثرت فيه الفتن وصار الإنسان يستطيع أن يصل إلى المنكر وهو في قعر بيته دون أن يشعر به أحد، وصار الإنسان أيضاً يستطيع أن يطوف في أنواع الضلالات والشبهات وينظر في العقائد الفاسدة والمواقع أو القنوات التي تبث الشبهات فتضلل الناس وتشكك الإنسان في عقيدته ودينه وهو في بيته بعد أن كان الناس لربما لا يستطيع الواحد منهم أن يصل إلى مطلوبه من ذلك إلا بألوان الاحتيال والصعوبات، ولربما تعجزه وتقعده الحيلة فلا يستطيع أن يحقق مطلوباً للنفس تشتهيه أو تهواه.
واليوم أيها الأحبة لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم، يجلس الرجل أو المرأة وهو في بيته يمكن أن يفعل ما يشاء، وأن ينظر إلى كل ما يريد، يمكن لهذا الإنسان أن يعاكس كل ما لا يرضاه الله تبارك وتعالى دون أن يشعر بذلك أحد من الناس.
أصبحنا أيها الأحبة نتقلب في فتن تجعل الحليم حيراناً، وأصبح كثير ممن جاوزوا سن ما يسمى بالمراهقة عادوا بعد ذلك إلى حال كان يجب أن ينزهوا أنفسهم عنها بعد اكتمال العقل والنضج وصار له من العيال ما يكون حاجزاً من أن ينظر إلى ما لا يليق أو أن يفعل ما لا يليق خوف العواقب السيئة التي لربما نزلت بأهل بيته، وكثرت الشكاية أيها الأحبة من الزوجات على الأزواج، انتكس كثير ممن كان يرتاد المساجد ويظهر عليه سيما الصالحين، انتكس على عقبه، والسبب أنه عرض نفسه للفتنة أولاً فلم ينجو منها آخراً.
ولذلك في مثل هذه الأوقات أيها الأحبة لا بد من الحديث عن مراقبة الله عز وجل وأن نكرر هذا الحديث يعظ به الإنسان نفسه حينما يتحدث ويعظ به إخوانه ويتردد ذلك في مجالسنا حيناً بعد حين؛ فإن هذه القلوب يحصل لها ما يحصل من أنواع الغفلة، والنفس شرود وقد ركبت في النفوس محبة الشهوات، كما أن الفتن خطافة، وقد يحمل الإنسان حب الاستطلاع على أن يرد موارد الهلكة فتعلق الشبه في قلبه ثم لا يستطيع بعد ذلك الخلاص منها، وأعرف من هذا أمثلة كثيرة فنسأل الله عز وجل أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا وأن يحفظنا وإياكم وجميع المسلمين من كل بلاء ومكروه.
أقول أيها الأحبة، الحديث عن المراقبة يتضمن قضايا متعددة:
أولها: في بيان حقيقة المراقبة.
والثاني: في منزلتها.
والثالث: في ذكر بعض ما ورد في هذا الباب في الكتاب والسنة.
والرابع: في أنواعها.
والخامس: في الطريق إليها.
والسادس: في ثمراتها.
والسابع: نماذج من أحوال أهل المراقبة.
أما حقيقتها أيها الأحبة؛ فهي من رقب، وهذه المادة تدل على انتصاب لمراعاة شيء، ومن ذلك الرقيب وهو الحافظ، ويقال المرقب للمكان العالي الذي يقف عليه الناظر فينظر من خلاله إلى ما يريد وقيل للرقبة التي في الإنسان رقبة لأنها منتصبة، ومن يريد أن ينظر أو يشاهد لا بد أن ينتصب عند نظره فيرفع رأسه وينظر إلى مطلوبه، والمرأة الرقوب هي التي لا يعيش لها ولد فكأنها ترقبه لعله يبقى، وفي أسماء الله عز وجل الرقيب وهو الحافظ الذي لا يغيب عنه شيء كما سيأتي.
وأما حقيقة المراقبة في معناها الاصطلاحي فمما ذكر في ذلك ما ذكره الحافظ ابن القيم رحمه الله بأنها: "دوام علم العبد وتيقنهُ باطلاع الحق سبحانه وتعالى على ظاهره وباطنه، فاستدامتنا لهذا العلم هو المراقبة؛ إذا تيقن الإنسان أن الله ينظر إليه وأنه لا يخفى عليه شيء من أحواله هذا هو حال المراقبة؛ فهي: التعبد لله عز وجل باسمه الرقيب الحفيظ العليم السميع البصير الخبير الشهيد وما إلى ذلك من الأسماء.
يقول الحافظ ابن القيم رحمه الله في نونيته:
وهو الرقيب على الخواطر واللواحظ كيف بالأفعال والأركان
يعلم خطرات النفوس ولحظ العيون كيف بالحركات والأفعال الظاهرة.
وفي حديث جبريل عليه السلام أنه سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الإحسان فقال: «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» [رواه البخاري].
ومقام المراقبة أيها الأحبة جامع للمعرفة مع الخشية، فبحسبها يحصل مقام المراقبة إذا علم العبد أن الله تعالى يطلع عليه وخافه، فإن هذا الخوف مع علمه باطلاع الرب يقال له الخشية، فإذا اجتمع هذا وهذا كان ذلك تحصيناً لهذا المقام وارتقاء إلى هذه المرتبة، وبذلك ينكف العبد عن فعل ما لا يليق.
ثانياً: في الكلام على منزلتها.
المراقبة أيها الأحبة؛ أساس الأعمال القلبية كلها، وهي عمودها الذي قيامها به، وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم أعمال القلب وفروعها كلها في كلمة واحدة في الحديث السابق في الإحسان: «أن تعبد الله كأنك تراه» فهذا جامع لمقام الإسلام والإيمان والإحسان، «فإن لم تكن تراه فإنه يراك» ومن أهل العلم من يقول: "إنها مرتبة واحدة، أن تستشعر هذا المعنى أن تعبد الله كأنك تراه، وعليك أن تعلم أنك إن لم تكن تراه فإن الله يراك فهي مرتبة واحدة".
ومن أهل العلم من يقول هما مرتبتان:
الأولى: أن تعبده كأنك تراه، وهي الأعلى، فإذا لم يستطع العبد أن يحصل ذلك فإنه ينحط إلى المرتبة التي بعدها من مرتبتي الإحسان، وهو أن يستشعر أن الله يراه، وهذا هو اختيار الحافظ ابن القيم رحمه الله، فيعلم أن الله عز وجل مشاهد له مطلع عليه في ظاهره وباطنه وإذا تحقق العبد من هذا لم يكن التفاته إلى المخلوقين فيتزين لهم ويتصنع، ويكون محافظاً على حدود الله عز وجل في الجلوة، ويكون منتهكاً لحرماته في الخلوة، فإن هذا لم يراقبه.
وكثيراً أيها الأحبة لا يكاد يخلو يوم من سؤال يكتبه صاحبه برسالة يبعث بها يسأل عن عمل يستحي أن يسأل عنه مباشرة، وهذا من العجب يستحي أن يسأل مخلوقاً ضعيفاً لا يعرفه ومع ذلك يفعل ذلك والله تبارك وتعالى يراه ويطلع عليه والملك يشاهده ويكتب عمله، وقد قال أبو حفص لأبي عثمان النيسابوري رحمه الله: "إذا جلست للناس فكن واعظاً لقلبك ولنفسك ولا يغرنك اجتماعهم عليك فإنهم يراقبون ظاهرك والله يراقب باطنك".
ثالثاً: مما ورد من النصوص في هذا الباب.
الآيات والأحاديث في هذا كثيرة؛ فالله جل جلاله يقول: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى? عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} [سورة آل عمران: 5].
{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ? وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [سورة الحديد: 4].
{يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [سورة غافر: 19].
{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ ? وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [سورة البقرة: 235].
{وَكَانَ اللَّهُ عَلَى? كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيبًا} [سورة الأحزاب: 52].
{أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى?} [سورة العلق: 14].
وجاء في حديث معاذ رضي الله عنه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: "يا رسول الله؛ أوصني"، قال: «اعبد الله كأنك تراه».
وجاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله...» [رواه البخاري]، وإذا نظرت إلى هؤلاء السبعة تجد أن الشيء المشترك والوصف الذي تحقق فيهم جميعاً هو المراقبة لله تبارك وتعالى.
الرجل الذي ذكر الله خالياً ففاضت عيناه ما الذي جعله يكون بهذه المثابة؟ هو مراقبة الله، الناس لا يرونه، الرجل الذي دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، حصلت له المنعة مع وجود الدافع القوي فهي ذات منصب وذات جمال ونفسه تطلب هذه الشهوات ومع ذلك قال إني أخاف الله، والرجل الذي تصدق بيمينه حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه؛ هذا رجل قد راقب الله عز وجل وإلا فإن المال أيها الأحبة شيء محبب إلى النفوس ولا يسهل عليها أن تجود به إلا بطلب عوض أعظم واليقين عند عامة الناس عند كثير من الناس ضعيف، ولذلك فإن الكثيرين قد يصعب عليهم إخراج المال لله تبارك وتعالى، فكيف بهذا الذي أخفاه إلى هذا الحد حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه.
الشاب الذي نشأ في طاعة الله عز وجل مع قوة النوازع وتوقد الغرائز الذي منعه من ذلك هو مراقبة الله تبارك وتعالى، وهكذا أيها الأحبة.
وجاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار فيجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم الله وهو أعلم بهم؛ كيف تركتم عبادي؟، فيقولون: تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون» [رواه البخاري]، فهل استحضرنا هذا المعنى، هل استحضره من يضيع صلاة الصبح ينام عنها ويضيع صلاة العصر حينما يأتي من عمله ثم بعد ذلك ينام.
رابعاً: في ذكر أنواع المراقبة.
يمكن أن تتنوع المراقبة أيها الأحبة إلى أنواع مختلفة باعتبارات متعددة، ولكن يمكن أن أقتصر على وجه من تنويعها، فأقول أيها الأحبة: المراقبة تكون قبل العمل، قبل أن تقدم على العمل ينبغي أن تسأل نفسك؛ هل لك فيه نية؟، ما ذا تريد بهذا العمل الذي تقوم به؟، حينما تريد أن تتصدق بصدقة هل هذه الصدقة تريد بها وجه الله أو أنك تجمع خسارة في الدنيا وعذاباً في الآخرة؟، إذا كان الإنسان ينفق من أجل أن يقال منفق، فيكون من أول من تسعر بهم النار يوم القيامة، هذا الإنسان الذي يريد أن يطلب العلم هل يريد أن يطلب هذا العلم من أجل أن يقال عالم، حينما يقوم الإنسان بمشروع من الأعمال الطيبة من إغاثة المنكوبين أو القيام على الفقراء والأرامل والأيتام، هذه أعمال جليلة، وتتطلب من الإنسان ألوان التضحيات، فينفق فيها وقته وجهده، ولربما لا يراه أهله إلا في قليل من الوقت، هل لك فيه نية، يسأل الإنسان حينما يريد أن يقدم على هذه الأعمال هل هو لله؟، هل للنفس فيه هوى؟، هل للشيطان فيه نزغة فيتثبت؟، فإن كان لله أمضاه، وإن كان لغيره صحح نيته وأخلص قصده وعمله، وفي هذا يقول الحسن البصري رحمه الله: "كان أحدهم إذا أراد أن يتصدق بصدقة نظر وتثبت، فإن كان لله أمضاه، ويقول: رحم الله عبداً وقف عند همه فإن كان لله مضى وإن كان لغيره تأخر".
وجاء عن محمد بن علي رحمه الله: "إن المؤمن وقاف ومتأنٍ يقف عند همه ليس كحاطب ليل. فلا يتسارع الإنسان في الأعمال في هذه الحياة الدنيا ولو كان ظاهر ذلك من الأعمال الصالحة حتى ينظر قبل أن يقدم عليه هل له فيه نية صحيحة أو لا".
تعرفون حديث الثلاثة الذين تسعر فيهم النار يوم القيامة أول الناس: هذا رجل عالم، وهذا رجل جواد، وهذا رجل قارئ للقرآن أو مجاهد في سبيل الله، فهذا جاهد ليقال شجاع، وهذا قرأ ليقال قارئ، أو تعلم العلم ليقال عالم، وهذا أنفق من أجل أن يقال جواد، فيدخل النار قبل السراق، والزناة، وأصحاب الجرائم، فالمسألة ليست بالشيء السهل، قد يتصور كثير من الناس أن الذين يُتوعدون بالعقوبة أنهم على خطر وخوف هم أولئك الذين يقارفون ما يقارفون من ألوان الشهوات الظاهرة؛ وما علم أن الشهوات الباطنة قد تكون أعظم وأشد من الشهوات الظاهرة، الإنسان أليس ينفق المال من أجل تحصيل المحامد، أليس الرجل قد يقدم في نحر العدو في شجاعة متناهية من أجل أن يقال شجاع، فيبذل نفسه من أجل قيلهم هذا، هذه أغلى ما يملكه الإنسان، النفس والمال.
لولا المشقة ساد الناس كلهم **** الجود يفقر والإقدام قتال
فيبذل الإنسان هذه الأمور التي هي أغلى ما يملك من أجل تحصيل شيء من حظوظ النفس الخفية، طلب المحمدة والسمعة، والرياء ، فليس الهالك هو ذلك الإنسان الذي يتبع ما يمليه عليه هواه من ألوان الشهوات من الفجور والمعاصي ومعاقرة الفواحش وما أشبه ذلك فحسب بل إن الهلكة تقع أيضاً في تلك النية المختلة الفاسدة التي لربما كان صاحبها يفطم نفسه عن ألوان المتع من النزه وأكل الطيبات والراحة والنوم والتمتع بألوان المتاع وهو يعمل ويكدح ويواصل الليل والنهار لكن ليس له في هذا نية، وقد ينتفع كثير من الناس ولكنه كالشمعة أو السراج الذي يضيء للآخرين ويحرق نفسه.
النظر الثاني هو أثناء العمل: يحتاج الإنسان إلى مراقبة لله عز وجل وهو يعمل، ونحن نصلي نراقب الله عز وجل في صلاتنا في ركوعنا وسجودنا وما نقوله فينا في صيامنا نراقب الله عز وجل لا نتكلم بكلام ينافي الصوم ولا نفعل فعلاً يخدشه، ونحن حينما نقوم بعمل من الأعمال الدعوية أو غير الأعمال الدعوية مما يحبه الله عز وجل ويرضاه أثناء العمل نصحح النية ونتابع فإن القلب كثير التقلب ولذلك قيل له الفؤاد والله أعلم لكثرة تفؤده وتوقده بالخواطر والأفكار والإرادات، يبدأ الإنسان بنية صحيحة ثم تجد قلبه يتقلب عليه، فيحتاج إلى ملاحظة دائمة أثناء العمل.
الذي يتكلم يلاحظ نفسه عند الكلام، والذي يعمل يلاحظ نفسه عند العمل، والذي يكون حتى في أعماله المباحة يلاحظ ويراقب نفسه عند القيام بهذا العمل المباح.
فالعبد أيها الأحبة إذا كان في طاعة يتفقد عمله هل جاء بأركانه وشروطه وواجباته وما أشبه ذلك.
إذا كان في معصية ينزجر وينكف ويتذكر نظر الله عز وجل إليه.
وإذا كان الإنسان في أمر مباح فإنه يشكر الله عز وجل على هذه النعم التي أولاه إياها، إذا كان يأكل يتفكر في هذا الطعام الذي يأكله كيف وصل إليه وكيف حرمه كثير من الناس وما يشتمل عليه هذا الطعام من ألوان العبر التي إذا نظر إليها الإنسان أحيت قلبه، هذا نظر أثناء العمل.
وهكذا أيضاً يتفقد الإنسان أوقاته؛ لأن الإنسان في هذه الحياة مبحر مسافر، كيف يقضيها، هذا اليوم منذ أن أشرقت شمسه ما هي المغانم والمكاسب التي حصلها فيه، في أربع وعشرين ساعة كان يمكن أن يقرأ ثمانية وأربعين جزءاً؛ فماذا قرأ، في هذه الأوقات كم يمكنه أن يصلي فيها من ركعة لله عز وجل، كم يمكنه أن يقرأ من صفحة في علم نافع، كم يمكنه أن يسبح من تسبيحة وأن يستغفر، فيفكر في هذه الأوقات التي تصرمت، منذ الليلة الماضية مثل هذا الوقت إلى الآن ما هي مكاسبنا؟، ماذا عملنا؟، هذه الإجازة قد انتصفت، ما الذي خرجنا به؟، ما هي الأعمال التي قمنا بها؟، الإنجازات التي حققناها كم تكافئ من أيام هذه الإجازة التي قد تصرمت؟، وهكذا أيها الأحبة يتفقد الإنسان دائماً نفسه وينظر في حاله وفي تقصيره وفي عمله حتى يلقى الله عز وجل وهو على يقظة دون أن يكون غافلاً فيخترمه الموت ثم بعد ذلك يندم ولا ينفعه الندم.
الأعمال التي يزاولها هل هذا هو الأفضل والعمر قصير أو أن هناك أعمالاً أفضل من هذه يمكن أن يتجر بها ويربح في تجارته مع الله جل جلاله.
وهكذا أيها الأحبة في كل شأن من شؤوننا، في الكلام؛ المجالس لربما كان الإنسان واعظاً، أو داعية، أو خطيباً، ويعلم الناس، ويبين لهم الأشياء التي يحتاجون إليها، يبين لهم حكم الغيبة، وإذا جلس في المجالس ينطلق لسانه في أعراض المسلمين، من غير أن يرعوي، ينبغي للإنسان أن ينظر في عمله فعلاً ولا يغتر ولا يظن أنه يمكن أن يجتاز الصراط بظاهر من التدين والله عز وجل يعلم حاله وما ينطوي عليه سره وقلبه وخبيئته.
هذه الأشياء الجميع يحتاج أن يراجع فيها نفسه، ولا يخلو أحد فمقل أو مستكثر، وقد قال بعضهم: "عالجت الصمت عما لا يعنيني عشرين سنة قبل أن أقدر منه على ما أريد"، وكان هذا الرجل لا يدع أحداً يغتاب أحداً في مجلسه، ويقول لجلسائه: "إن ذكرتم الله أعناكم وإن ذكرتم الناس تركناكم"، من منا يفعل هذا، إذا أراد أحداً أن يغتاب الناس قال له سبح، اذكر الله عز وجل، ولو كان هذا المغتاب من الصالحين من الخيرين، فإن حدود الله عز وجل لا يحابى بها أحد، فينبغي على الجميع أن يلتزم أمر الله تبارك وتعالى ويجتنب نهيه، وليس صلاح الإنسان في الظاهر، أو جهوده التي يبذلها في سبيل الله تبارك وتعالى تكون مسوغاً وسبباً لأن يفعل ما يريد.
خامساً: كيف نصل إلى المراقبة.
ما الطريق إليها؟
أقول: أول ذلك أيها الأحبة وهو من أعظمه أن نستحضر معاني الأسماء الحسنى التي تؤثر في هذا المقام والله تبارك وتعالى علمنا في هذا القرآن جملة طيبة كثيرة من أسمائه جل جلاله، وإنما ذلك من أجل أن نتعبده بهذه الأسماء.
فمن أسمائه التي تتعلق بهذا المعنى: الرقيب، وكذلك الحفيظ، والعليم، والخبير، والشهيد، والمحيط، واللطيف، إلى غير ذلك من الأسماء التي إذا أدرك العبد معناها وتعبد ربه بمقتضاها فإن ذلك يؤدي به إلى تحصيل مقام المراقبة.
فالرقيب هو الحافظ الذي لا يغيب عنه شيء، الحفيظ الذي لا يغفل، العليم الذي لا يعزب عنه مثقال شيء من أحوال خلقه، يرى أحوال العباد ويحصي أعمالهم، ويحيط بمكنونات سرائرهم فهو مطلع على الضمائر، شاهد على السرائر، يعلم ويرى ولا يخفى عليه السر والنجوى {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ ? فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ? وَأَنتَ عَلَى? كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [سورة المائدة: 117]، {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [سورة النساء: 1]، {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى? كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيبًا} [سورة الأحزاب: 52].
رقيب على كل الوجود مهيمن *** على الفلك الدوار نجماً وكوكبا
رقيب على كل النفوس وإن تلذ *** بصمت ولم تجهر بسر تغيبا
رقيب تعالى مالك الملك مبصر *** به كل شيء ظاهر أو محجبا
والمراقبة هي ثمرة علمه بأن الله سبحانه وتعالى رقيب عليه ناظر إليه سامع لقوله مطلع على عمله في كل وقت وحين، وفي كل نفس وفي كل طرفة عين، فإذا أرادت عينه أن تمتد إلى النظر إلى ما حرم الله عز وجل لامرأة يشاهدها ويراها في الطريق أو في الأسواق أو كان ذلك في شاشة فإنه يدرك ويعلم أن نظر الله إليه أسبق من نظره إليها فيخاف وينزجر وينكف، عن هذا النظر، وكان الإمام أحمد رحمه الله كثيراً ما يردد:
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل *** خلوت ولكن قل علي رقيب
ولا أن الله يغفل ساعة *** ولا أن ما تخفي عليه يغيب
لهونا عن الأيام حتى تتابعت *** ذنوب على آثارهن ذنوب
فياليت أن الله يغفر ما مضى **** ويأذن في توباتنا فنتوب
قال رجل لوهيب بن الورد رحمه الله: "عظني؟"، قال: "اتق أن يكون الله أهون الناظرين إليك".
وهذا للأسف قد نقع فيه، وإذا تتابعت الغفلة على قلب الإنسان فإنه قد يستحي من مخلوق ضعيف ولربما كان صبياً صغيراً أن يفعل ما لا يليق بحضرته ولكنه يفعل العظائم والله تبارك وتعالى يراه ويطلع عليه وينظر إليه.
ومن أسمائه تبارك وتعالى: الشهيد، وهو مشتق من الشهود بمعنى الحضور، وذلك يستلزم العلم.
فالله مطلع على كل الأشياء يسمع جميع الأصوات، خفيها وجليها، ويبصر جميع المبصرات دقيقها وجليلها صغيرها وكبيرها، وأحاط علمه بكل شيء، فهو شهيد أيضاً، يشهد على الخلق يوم القيامة بما علم وشاهد من أفعالهم {وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى? مَا تَعْمَلُونَ} [سورة آل عمران: 98]، {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى? كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا} [سورة النساء: 33]، {وَكَفَى? بِاللَّهِ شَهِيدًا} [سورة النساء: 79].
والفرق بين الرقيب والشهيد: أن الرقيب فيه زيادة حفظ، فالشهيد مطلع شاهد ينظر إليه، وأما الرقيب فهو مطلع عليه يحفظ عمله الذي يزاوله ويعمله؛ فالله تبارك وتعالى رقيب شهيد، وهو كذلك أيضاً حفيظ.
والحفيظ له معنيان:
الأول: أنه حفظ أعمال العباد فلم يذهب شيء منها، كل ما يقوله الإنسان وكل ما يعمله محفوظ، سواء كان ذلك من قبيل الخير أو الشر، وهذا المعنى من حفظه تبارك وتعالى يقتضي إحاطة علمه بكل المخلوقات، وأنه كتب ذلك تبارك وتعالى في اللوح المحفوظ وفي الصحف التي بأيدي الملائكة، وعلم بمقادير هذه الأعمال والأشياء، فلم يفت عليه شيء من ذلك.
المعنى الثاني من معاني الحفيظ: أنه يحفظ عباده مما يكرهون، {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا} [سورة يوسف: 64].
يقول ابن القيم رحمه الله في الجمع بين هذين المعنيين:
وهو الحفيظ عليهم وهو الكفيل *** بحفظهم من كل أمر عاني
حفيظ عليهم: يحفظ أعمالهم، وهو الكفيل بحفظهم: يحفظهم من المكاره.
جل الحفيظ فلولا لطف قدرته *** ضاع الوجود وضل النجم والفلك
حتى القطيرةَ من ماء إذا نزلت *** من السحب لها في حفظها ملك
{إِنَّ رَبِّي عَلَى? كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} [سورة هود: 57]، فمن علم أن ربه حفيظ؛ حفظ جوارحه وقلبه من كل ما لا يليق.
والعلم الحديث أيها الأحبة أثبت أنه يمكن استرجاع ما يصدر من الإنسان من الأصوات، يقولون إن كلام الإنسان يتحول إلى موجات هوائية وأن هذه الموجات تبقى كما هي في الأثير بعد حدوثه ومن الممكن أن تسترجع وأن تسمع مرة أخرى، يقول لكنا علومنا قاصرة لم تصل إلى هذا بعد، يقولون لو استطاع العلم أن يكتشف جهازاً يستطيع أن يلتقط هذه الأصوات التي قالها القائلون منذ أن خلق الله عز وجل آدم -صلى الله عليه وسلم- فإن ذلك من الناحية العلمية ممكن لكن يقولون لم نصل إليه بعد، ونحن نعلم يقيناً أن الله تبارك وتعالى قد أحاط بذلك كله وأن الله قادر على أن يسمع الناس كلامهم، وهو قادر تبارك وتعالى على أن يعيد لهم الصورة من جديد في العمل الذي يزاولونه، الله على كل شيء قدير، ولهذا فإن الله ينطق الجوارح وينطق الأرض، الأرض تحدث أخبارها، والجوارح تتكلم بما عمله الإنسان فيها.
ومن أسمائه تبارك وتعالى: المحيط. فالله رقيب، شهيد، حفيظ، محيط، وهذه الأسماء: الرقيب والشهيد والمحيط والحفيظ تشترك في صفة العلم، لكن الرقيب يفيد مع العلم الحفظ، والشهيد يفيد مع العلم الحضور، والمحيط يفيد مع العلم الشمول والإحاطة والقدرة.
ومن أسمائه تبارك وتعالى أيضاً: العليم.
{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} [سورة الحديد: 4]، {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} [سورة البقرة: 235].
والرب فوق العرش والكرسي *** لا يخفى عليه خواطر الإنسان
.