قصة الأبرص والأقرع والأعمى
تعالوا بنا أيها الأحبة في هذا اللقاء لنتدارس معاً قصة من قصص الأولين ، وحكاية لبعض الأقدمين .
قصة حكاها لنا إمام الأولين والآخرين ، وقصها لأمته لـتأخذ منها الأمة العبرة والعظة .
قصة ثلاثة من بني إسرائيل ؛ اثنان منهم كانا جاحدين لأنعم الله عليهما ، وأما الثالث ؛ فكان لله شاكراً صالحاً .
قصة تبين لنا أن بقاء النعم وداومها بشكرها ، وأن زوال النعم ومحقها بكفرها وجحودها .
قصة تبين أن الشكر حارس النعم ، وأن الكذب والجحود ينزل النقم ، ويمحو البركات ، ويدمر التركات ، ويذهب بالثروات .
فمن لم يشكر النعم فقد تعرض لزوالها ، ومن شكر النعم فقد قيدها بعقالها .
قصة تبين لنا أن الدنيا إلى زوال ، وأن ما عند الناس يفنى ، وما عند الله باق .
قصة تبين أن التنافس على الدنيا والحرص عليها ليس من شيم الصالحين ، ولا من صفات المتقين .
قصة تبين أن المال محمود مع الشاكرين ، مذموم مع البخلاء والجاحدين .
فقد قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ فيما رواه أحمد في "مسنده " والبخاري في " الأدب المفرد" وغيرهما بإسناد صحيح من حديث عمرو بن العاص أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال :" يَا عَمْرُو نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ لِلْمَرْءِ الصَّالِحِ " .
وقال : " فَوَ اللَّهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ ، وَلَكِنِّي أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ ، كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا ، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ ".
روى البخاري ومسلم من حديث أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم يَقُولُ : " إِنَّ ثَلاَثَةً فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ : أَبْرَصَ وَأَقْرَعَ وَأَعْمَى . [وهي : منصوبات على البدلية من : ثلاثة].
( بَدَا لِلَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ) وفي رواية : (فَأَرَادَ اللهُ أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ) ؛ فأظهر الله ذلك فيهم بعد إخفائه عنهم ، فالمعنى : ظهور حكم الله للناس، وقيل : معنى ( بدا لله ) ؛ أي : قضى الله وأراد . وثم بحث مفاده أن لفظة (بدا لله) من تصرف بعض الرواة ؛ كما في "الصحيحة" ، وأن الراجح : (أراد الله) ، ولكن دفع هذا الرأي الغنيمان في شرح ( فتح المجيد ). فلَيْسَ هَذَا بداء يُخَالف الْعلم الْقَدِيم ؛ كما قال ابن تيمية في "جامع الرسائل" ، من باب : قوله تعالى: { {الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً[الأنفال:66]
فقوله : (بَدَا لِلَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ) ؛ أي : أراد الله أن يظهر ما سبق في علمه ، وليس المراد أنه ظهر له بعد أن كان خافياً ؛ لأن ذلك محالٌ في حق الله تعالى ؛ قاله الحافظ .
لقد أراد الله تعالى - لَا رَادَّ لِقَضَائِهِ ، وَلَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ ، وَلَا غالب لأمره ، ولَا مُعَارِضَ لِمَشِيئَتِهِ - أن يبتلي هؤلاء ، ولا أحد فوق إرادة رب الأرض والسماء .
(مَا شِئْت كَانَ وَإِن لم أشأ ... وَمَا شِئْتُ إِن لم تشأ لم يكن)
(خلقت الْعباد على مَا علمت ... فَفِي الْعلم يجْرِي الْفَتى والمسن)
(على ذَا مننت وَهَذَا خذلت ... وَهَذَا أعنت وَذَا لم تعن)
(فَمنهمْ شقي وَمِنْهُم سعيد ... وَمِنْهُم قَبِيحٌ وَمِنْهُم حسن)
فكل شيء في الكون يجري تحت سمع الله وبصره ، وقدرته ومشيئته ؛ قال تعالى : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) .
واعلم- أخي - الإرادة إرادتان : كونية وشرعية ؛ فالكونية لا تخالَف ، وأما الشرعية ؛ فقد تخالف وقد لا تخالف . ففي الكونية القدرية :
يقول تعالى : (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ) .
(قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاء إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ)
(إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ)
(أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)
(وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ).
وفي الشرعية الدينية :
1-يقول تعالى : ( يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا) .
2-(يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) .
3-(مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ).
فالإرادة الكونية لا يستطيع مخلوق أن يخالفها ؛ فهي واقعة كائنة لا محالة ؛ كالأمراض والابتلاءات والأسقام والزلازل والبراكين والحوادث والكوارث والمصائب .
لكن الإرادة الشرعية قد يخالفها العباد ؛ فيريد الله تعالى منهم أن يطيعوه ويعبدوه ويخشوه ويخافوه ، فيعصونه ولا يخشونه ، ويشركون به ، ولا يعبدونه .
أمرهم بالصلاة والزكاة والبر والصلة ؛ فمنهم المطيع ، ومنهم العاصي .
أمرهم بالتوحيد ؛ فمنهم الكافر ، ومنهم المؤمن .
لكن الإرادة الكونية لا يستطيع أحد على وجه الأرض ردها أو دفعها ؛ كالابتلاءات التي يقدرها الله تعالى على العباد ؛ فإرادته ومشيئته نافذة ، وقدرته شاملة . {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} و{يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} و{يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} ، لا ناقض لِمَا أَبْرَمَ ، وَلَا مُعَارِضَ لِمَا حَكَمَ, وَلَا يُقَالُ لِمَ فَعَلَ كَذَا وَهَلَّا كَانَ كَذَا ؟! لِأَنَّهُ : {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 23] . راجع "المعارج" و "الطحاوية".
(فَأَرَادَ اللهُ أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ) ؛ أي : يختبرهم ؛ ليعرفوا أنفسهم ، وليعرفهم الناس ؛ فالابتلاء سنة لله تعالى في خلقه ؛ فينظر من الصادق ومن الكاذب ؛ قال تعالى : (الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) .
فيكون الابتلاء امتحاناً واختباراً من الله تعالى للعبد ؛ كما أن الا بتلاء الواقع على بني الإنسان تكون الحكمة من ورائه كذلك التمحيص والتطهير ، ورفع الدرجات ، والرجوع إلى رب الأرض والسموات ؛ قال تعالى : (وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) .
(كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) .
( وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) .
وفي "الصحيحين" من حديث : أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : « مَا يُصِيبُ المُسْلِمَ، مِنْ نَصَبٍ وَلاَ وَصَبٍ، وَلاَ هَمٍّ وَلاَ حُزْنٍ ، وَلاَ أَذًى وَلاَ غَمٍّ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا ، إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ» . [(نصب) تعب.(وصب) مرض.(هم) كره لما يتوقعه من سوء.(حزن) أسى على ما حصل له من مكروه في الماضي .(أذى) من تعدي غيره عليه .(غم) ما يضيق القلب والنفس(خطاياه) ذنوبه] .
وفي "صحيح" مسلم من حديث : جَابِر بْنِ عَبْدِ اللهِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، دَخَلَ عَلَى أُمِّ السَّائِبِ أَوْ أُمِّ الْمُسَيِّبِ فَقَالَ: «مَا لَكِ؟ يَا أُمَّ السَّائِبِ أَوْ يَا أُمَّ الْمُسَيِّبِ تُزَفْزِفِينَ؟» قَالَتْ: الْحُمَّى، لَا بَارَكَ اللهُ فِيهَا، فَقَالَ: «لَا تَسُبِّي الْحُمَّى، فَإِنَّهَا تُذْهِبُ خَطَايَا بَنِي آدَمَ، كَمَا يُذْهِبُ الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ» .
وفي" الصحيحين" عن عَطَاء بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، قَالَ: قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ: أَلَا أُرِيكَ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟ قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: هَذِهِ الْمَرْأَةُ السَّوْدَاءُ، أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ: إِنِّي أُصْرَعُ وَإِنِّي أَتَكَشَّفُ، فَادْعُ اللهَ لِي، قَالَ: «إِنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلَكِ الْجَنَّةُ، وَإِنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللهَ أَنْ يُعَافِيَكِ» قَالَتْ: أَصْبِرُ، قَالَتْ: فَإِنِّي أَتَكَشَّفُ فَادْعُ اللهَ أَنْ لَا أَتَكَشَّفَ فَدَعَا لَهَا .
وأشد الناس بلاء : الرسل والأنبياء ؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي وابن ماجه وغيرهما من حديث : سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً؟ قَالَ: «الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ، يُبْتَلَى الْعَبْدُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ صُلْبًا، اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ، ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ، حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ، وَمَا عَلَيْهِ مِنْ خَطِيئَةٍ».
وسيد الأولين صلى الله عليه وسلم ابتلى أعظم الابتلاءات في دعوته وجسمه وعرضه وطهره !! ففي دعوته لما ذهب يدعو أهل الطائف ؛ قال لأم عبد الله عائشة رضي الله عنها : (" لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ ، وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ العَقَبَةِ، إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلاَلٍ، فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ، فَنَادَانِي فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ، فَنَادَانِي مَلَكُ الجِبَالِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، فَقَالَ، ذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الأَخْشَبَيْنِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ ، لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا ") .
وقبل ذلك ما فعل أهل مكة به من تكذيب وتعذيب وسخرية واستهزاء واتهام بالسحر والكهانة والشعر !! (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ) .
وابتلي صلى الله عليه وسلم في جسمه الشريف ؛ فقد كان يوعك كما يوعك الرجلان . ففي "الصحيحين "عَنْ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُوعَكُ، فَمَسِسْتُهُ بِيَدِي، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّكَ لَتُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَجَلْ إِنِّي أُوعَكُ كَمَا يُوعَكُ رَجُلَانِ مِنْكُمْ» قَالَ : فَقُلْتُ : ذَلِكَ أَنَّ لَكَ أَجْرَيْنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَجَلْ» ،ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى مِنْ مَرَضٍ، فَمَا سِوَاهُ (شَوْكَةٌ فَمَا فَوْقَهَا، إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا سَيِّئَاتِهِ، كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا) إِلَّا حَطَّ اللهُ بِهِ سَيِّئَاتِهِ، كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا».
وابتلي صلى الله عليه وسلم في عرضه ؛ فقد اتهمت زوجته الطاهرة الحصان الرزان أم عبد الله عائشة رضي الله عنها بالزنا !! وهي أطهر وأصفى من ماء السماء ، ومكث رسول الله صلى الله عليه وسلم شهراً كاملاً لا ينزل عليه شيء من الوحي بخصوص ذلك ؛ فكانت محنة من أشد المحن ، وابتلاء من أعظم الابتلاءات ؛ حتى نزلت براءتها من فوق سبع سموات ؛ قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُو بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ) .
فالابتلاء سنة لله في خلقه ، لا يسلم منه أحد ؛ ليعلم الله الصادق من الكاذب ، والصابر من الساخط ؟ ومن الذي سينجح في هذا الاختبار ومن الذي سيفشل فيه ؟!
( فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مَلَكًا ) . - في صورة إنسان -.
فالملك يأتي البشر في صورة إنسان ، ويتمثل في صورة رجل ؛ كما أتى جبريل إلى مريم في صورة رجل ؛ فلما رأته : (قالت إني أعوذ بالرحمن منك) ، وكما أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صورة أعرابي ؛ فسأله عن الإسلام والإيمان والإحسان .
وفي صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، " أَنَّ رَجُلًا زَارَ أَخًا لَهُ فِي قَرْيَةٍ أُخْرَى، فَأَرْصَدَ اللهُ لَهُ، عَلَى مَدْرَجَتِهِ، مَلَكًا فَلَمَّا أَتَى عَلَيْهِ، قَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: أُرِيدُ أَخًا لِي فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ، قَالَ: هَلْ لَكَ عَلَيْهِ مِنْ نِعْمَةٍ تَرُبُّهَا؟ قَالَ: لَا، غَيْرَ أَنِّي أَحْبَبْتُهُ فِي اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ: فَإِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكَ، بِأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَبَّكَ كَمَا أَحْبَبْتَهُ فِيهِ " .
( فَأَتَى الأَبْرَصَ ) . والبرص : بياض في جلد الإنسان .
( فَقَالَ - أي : الملك للأبرص - : أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ ؟ قَالَ : لَوْنٌ حَسَنٌ [كالبياض]، وَجِلْدٌ حَسَنٌ [ناعم طري]، قَدْ قَذِرَنِي النَّاسُ ( وَيَذْهَبُ عَنِّي الَّذِي قَدْ قَذِرَنِي النَّاسُ) [أي : اشمأزوا من رؤيتي ، وكرهوا مخالطتي من أجله ]
فانظر كيف تمنى أن يكون ؟
( قَالَ - أي : الرسول صلى الله عليه وسلم - : فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ عَنْهُ (فَذَهَبَ عَنْهُ قَذَرُهُ) ، فَأُعْطِيَ لَوْنًا حَسَنًا، وَجِلْدًا حَسَنًا ) .
فانظر كيف كانت هذه الكرامة من الله تعالى على يد الملك ؟ مسح الملك على جلده مسحة واحدة فذهب عنه برصه ! وتحول جلده إلى اللون الحسن ، والجلد الحسن .. فالكرامات نؤمن بها ، ولا ننكرها . وربك على كل شيء قدير . يقول للشيء : كن فيكون .
إن قدرة الله لا تحدها حدود على الإطلاق ؛ فهو الذي شق البحر لموسى ، وسلب خاصية النار لإبراهيم .
فو حقُّه لأسلِّمن لأمره ... في كلِّ نازلة وضيق خناق
موسى وإبراهيم لمَّا سلَّما ... سَلِمَا من الإغراق والإحراق
فيا من شق البحر لموسى حتى خرج ؛ أخرج أهل مصر والعراق وسوريا من الضيق إلى الفرج .
( فَقَالَ - الملك - : أَيُّ المَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ ؟ قَالَ – الأبرص - : الإِبِلُ، - أَوْ قَالَ : البَقَرُ، هُوَ شَكَّ فِي ذَلِكَ : إِنَّ الأَبْرَصَ، وَالأَقْرَعَ ، قَالَ أَحَدُهُمَا : الإِبِلُ ، وَقَالَ الآخَرُ: البَقَرُ -، فَأُعْطِيَ نَاقَةً عُشَرَاءَ ) [أي : مضى على حملها عشرة أشهر من يوم طرقها الفحل . وقد أطلقت هذه العبارة على الحامل مطلقاً] [والنياق من أنفس الأموال عند العرب ؛ فانظر كيف طلب هذا الرجل أنفس شيء وأغلاه ؟! فهل هذا زهد في الدنيا ؟ وحرص على الآخرة ؟ كلا كلا .. ].
( فَقَالَ : يُبَارَكُ لَكَ فِيهَا (بَارَكَ اللهُ لَكَ فِيهَا) .
( وَأَتَى الأَقْرَعَ ) . والقرع : مرض .. وهو ذهاب شعر الرأس .
( فَقَالَ : أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ : شَعَرٌ حَسَنٌ، وَيَذْهَبُ عَنِّي هَذَا ، قَدْ قَذِرَنِي النَّاسُ (وَيَذْهَبُ عَنِّي هَذَا الَّذِي قَدْ قَذِرَنِي النَّاسُ).
فهذه أمنيته ! وذاك مطلبه !
( قَالَ : فَمَسَحَهُ [مسح على رأسه] فَذَهَبَ (فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ عَنْهُ) ، وَأُعْطِيَ شَعَرًا حَسَنًا ، قَالَ : فَأَيُّ المَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: البَقَرُ، قَالَ: فَأَعْطَاهُ بَقَرَةً حَامِلًا (فَأُعْطِيَ بَقَرَةً حَامِلًا)، وَقَالَ: يُبَارَكُ لَكَ فِيهَا (بَارَكَ اللهُ لَكَ فِيهَا)، وَأَتَى الأَعْمَى ؛ فَقَالَ : أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: يَرُدُّ اللَّهُ إِلَيَّ بَصَرِي، فَأُبْصِرُ بِهِ النَّاسَ (أَنْ يَرُدَّ اللهُ إِلَيَّ بَصَرِي، فَأُبْصِرَ بِهِ النَّاسَ) ، قَالَ : فَمَسَحَهُ [مسح على عينه] ؛ فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِ بَصَرَهُ ، قَالَ : فَأَيُّ المَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ الغَنَمُ : فَأَعْطَاهُ شَاةً وَالِدًا (فَأُعْطِيَ شَاةً وَالِدًا) [أي : ذات ولد أو حاملاً ؛ فطلب الأعمى غنمة ، ولم يطلب كما طلب الآخران بقراً ولا إبلاً ، وذلك لزهده وعدم حرصه وطمعه].
( فَأُنْتِجَ هَذَانِ وَوَلَّدَ هَذَا ) [أنتج أي : نتج من النتاج ، وهو : ما تضعه البهائم ، فَأُنْتِجَ هَذَانِ ؛ أي : تولى نتاجها ؛ أي : تولى الولادة هذان : صاحب الإبل والبقر ، واستولد الناقة والبقرة : الأبرص والأقرع] [وَوَلَّدَ هَذَا من التوليد بمعنى الانتاج ؛ أي : تولى ولادتها] [فالناتج للإبل ، والمولد للغنم وغيرها] [وَوَلَّدَ هَذَا ؛ أي : صاحب الشاة وهو : الأعمى] .
( فَكَانَ لِهَذَا وَادٍ مِنْ إِبِلٍ (مِنَ الْإِبِلِ)، وَلِهَذَا وَادٍ مِنْ بَقَرٍ (مِنَ الْبَقَرِ)، وَلِهَذَا وَادٍ مِنْ غَنَمٍ (مِنَ الْغَنَمِ) .
وهنا أراد أن يقيم الحجة على هؤلاء ؛ فماذا تم معهم ؟ وماذا جرى لهم ؟
(قال : ثُمَّ إِنَّهُ - الملك - أَتَى الأَبْرَصَ فِي صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ [التي كان عليها الأبرص قبل ذلك حين اجتمعا معاً أول مرة] ، فَقَالَ : رَجُلٌ مِسْكِينٌ،[أي : أنا رجل مسكين ، وهذا من المعاريض ؛ أراد أنك كنت هكذا ] تَقَطَّعَتْ (انقطعت) بِيَ الحِبَالُ فِي سَفَرِي [أي : انقطعت به الأسباب التي توصله إلى أهله . وقيل : الطرق التي يتعاطاها في طلب الرزق ويقطعها . وفي رواية : (انقطعت بي الحيال ) ؛ أي : لم تبق لي حيلة][فهو فقير ومسافر]، فَلاَ بَلاَغَ [كفاية](لي) اليَوْمَ إِلَّا بِاللَّهِ [فالمدد من عنده إيجاداً] ، ثُمَّ بِكَ[سبباً] [كقولك : ما شاء الله ثم شئت . فلم يقل : وبك ! وفيه من حسن الأدب ما لا يخفى]، أَسْأَلُكَ [مقسماً عليك ، ومتوسلاً إليك] بِالَّذِي أَعْطَاكَ اللَّوْنَ الحَسَنَ، وَالجِلْدَ الحَسَنَ، وَالمَالَ [وهي : الإبل]، بَعِيرًا [أطلب منك بعيراً] أَتَبَلَّغُ [من البلغة وهي الكفاية . والمعنى : أتوصل به إلى مرادي]عَلَيْهِ فِي سَفَرِي [أي : وطني أو إلى مقصودي]، فَقَالَ لَهُ : إِنَّ الحُقُوقَ كَثِيرَةٌ (الْحُقُوقُ كَثِيرَةٌ) [أي : حقوق المال كثيرة عليَّ ولم أقدر على أدائها ، وهو كذاب فيما يدعي !! وهذه حال كثير من الناس يزعم الفقر والجوع وقلة الحيلة ؛ هروباً من أداء الحقوق إلى أهلها]، فَقَالَ لَهُ : كَأَنِّي أَعْرِفُكَ، أَلَمْ تَكُنْ أَبْرَصَ[أي : قد كنت أبرص]يَقْذَرُكَ النَّاسُ[يكرهونك ويستقذرونك]، فَقِيرًا فَأَعْطَاكَ اللَّهُ؟[جمالاً ومالاً] فَقَالَ [وهو كذاب!! لقد أنكر نعمة الله عليه]: لَقَدْ وَرِثْتُ لِكَابِرٍ عَنْ كَابِرٍ (إِنَّمَا وَرِثْتُ هَذَا الْمَالَ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ) [أي : كبيراً أخذاً عن كبير ، ورثته من آبائي الذين ورثوه من آبائهم ، ليس لأحدٍ فضلاً عليَّ ؛ كحال كثير من الناس : هذا المال من كدي وتعبي ! بذكائي وفطنتي ! بعلمي وشهادتي !! أوتيته على علمٍ عندي !! ويتكبر على الخلق ، وتعالى عليهم !! ولا يكترث بالفقراء والمحتاجين][وهكذا الشح والبخل يوقع ويجر صاحبه الكذب] [تعال يا فلان أسهم معنا في بناء مسجد أو في بناء مستشفى أو مساعدة اليتامى والفقراء ؛ فيتملص من العطاء ، بل ويكذب ؛ فيسقط في الاختبار ، ويرسب رسوباً فاحشاً ؛ لأنه يؤدي إلى زوال المال ، بل وسخط الكبير المتعال ]؛ فَقَالَ : إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللَّهُ إِلَى مَا كُنْتَ [إن كنت .. مع أنه كذبه مقطوع به ، وذلك لقصد التوبيخ][فصيرك الله بلفظ المضي ، ولم يقل : فسيصيرك بفظ المضارع ؛ لأنه أراد المبالغة في الدعاء عليه] [إلى ما كنت ؛ أي : من البرص والفاقة ؛ أي : جعلك الله فقيراً حقيراً].
وَأَتَى الأَقْرَعَ فِي صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ (وَأَتَى الْأَقْرَعَ فِي صُورَتِهِ) ؛ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ لِهَذَا ، فَرَدَّ عَلَيْهِ مِثْلَ مَا رَدَّ عَلَيْهِ هَذَا ( وَرَدَّ عَلَيْهِ مِثْلَ مَا رَدَّ عَلَى هَذَا ) [يعني : الأبرص]؛ فَقَالَ : إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللَّهُ إِلَى مَا كُنْتَ، وَأَتَى الأَعْمَى فِي صُورَتِهِ .
( وَأَتَى الْأَعْمَى فِي صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ ) ؛ فَقَالَ : رَجُلٌ مِسْكِينٌ وَابْنُ سَبِيلٍ وَتَقَطَّعَتْ (انْقَطَعَتْ) بِيَ الحِبَالُ فِي سَفَرِي ؛ فَلاَ بَلاَغَ اليَوْمَ إِلَّا بِاللَّهِ ، ثُمَّ بِكَ ، أَسْأَلُكَ بِالَّذِي رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ شَاةً أَتَبَلَّغُ بِهَا فِي سَفَرِي، فَقَالَ [وهنا اعترف الأعمى بنعمة الله عليه]: قَدْ كُنْتُ أَعْمَى فَرَدَّ اللَّهُ بَصَرِي (فَرَدَّ اللهُ إِلَيَّ بَصَرِي)، وَفَقِيرًا فَقَدْ أَغْنَانِي، فَخُذْ مَا شِئْتَ (وَدَعْ مَا شِئْتَ) [بالله ما أجمله من سخاء ! وما أعظمه من وفاء ! وما ألذه من كرم !]؛ فَوَ اللَّهِ لاَ أَجْهَدُكَ اليَوْمَ بِشَيْءٍ ( شَيْئًا ) أَخَذْتَهُ لِلَّهِ [أي : لا أشق عليك في منع ورد شيء تطلبه مني ، أو تأخذه من مالي] [والجهد : المشقة][وفي رواية : لا أحمدك على ترك شيء تحتاج إليه من مالي] .
"( فَقَالَ : أَمْسِكْ مَالَكَ ؛ فَإِنَّمَا ابْتُلِيتُمْ [أي : امتحنتم] ؛ فَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْكَ [الله أكبر .. هكذا فعل الإيمان بأصحابه .. ] [هل نقص مال هذا الرجل الأعمى ؟ كلا ؛ بل زاد ونما وكثر ؛ بل نال العبد رضا ربه ومولاه]، وَسَخِطَ عَلَى صَاحِبَيْكَ (فَقَدْ رُضِيَ عَنْكَ ، وَسُخِطَ عَلَى صَاحِبَيْكَ)" . [وهذا دليل على أن أمرهم كان مشهوراً بين الناس] .
فهل اعتبرت بهذه الحقيقة ؟ لقد سخط الله على هذين البخيلين ! لقد فشلا في هذا الاختبار .. وأساءا الأدب والحوار .. فتعس عبد الدرهم ، وتعس عبد الدينار !!
فهل وحدت العزيز الغفار ؟ وشكرته على نعمه عليك الكثيرة في الليل والنهار؟ فأخذت من الحلال ، وأديت حق الكبير المتعال؟
(وَاتَّقُوا الشُّحَّ ، فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ) . م / جابر .
أيها الغني : إياك أن تبخل بمالك! إياك أن تجحد نعم الله عليك ! إياك أن تحتقر الناس ! إياك أن تكسر قلوب الناس ما دمت مستطيعاً ! إياك أن تمنع الفقراء حقوقهم !
كن كالأعمى في وفائه ! كن كالأعمى في عطائه ! كن كالأعمى في سخائه !
أخياه .. أختاه : الشكر حارس النعم ؛ قال تعالى : (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) (وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) ( قال الله : أنفق يا ابن أدم أنفق عليك ). خ و م / عن أبي هريرة . وفيهما عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلاَّ مَلَكَانِ يَنْزِلاَنِ ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا : اللَّهُمَّ ، أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا ، وَيَقُولُ الآخَرُ : اللَّهُمَّ ، أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا ) . فمن لم يشكر النعم فقد تعرض لزوالها ، ومن شكرها فقد قيدها بعقالها . . كن على يقين وثقة مطلقة أن الله سيخلف عليك في الدنيا والآخرة .. واعلم أن المال في بركة ونماء ما دمت تؤدي فيه حق رب الأرض والسماء .
( روى مسلم عن أَبي أُمَامَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ أَنْ تَبْذُلَ الْفَضْلَ خَيْرٌ لَكَ ، وَأَنْ تُمْسِكَهُ شَرٌّ لَكَ ، وَلاَ تُلاَمُ عَلَى كَفَافٍ ، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ ، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى) .
وفي (خ و م عن أَنَس بْن مَالِكٍ ، يَقُولُ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَتْبَعُ الْمَيِّتَ ثَلاَثَةٌ ، فَيَرْجِعُ اثْنَانِ وَيَبْقَى وَاحِدٌ ، يَتْبَعُهُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَمَلُهُ ، فَيَرْجِعُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَيَبْقَى عَمَلُهُ) .
الله نسأل أن يوفقنا لما فيه رضاه ، وأن يطهرنا من البخل والشح والحرص والطمع والجشع ، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته .
حقاًّ : رجلٌ أعمى نجح في هذا الامتحان العصيب ..
إن المال فتنة ! قل من يسلم منها (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (وقال صلى الله عليه وسلم : " إِنَّ لكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةً ، وَإِنَّ فِتْنَةَ أُمَّتِي الْمَالُ") حم و ت .
فالمال سبب للوقوع في الفتنة ، وهي الميل عن الحق أو المحنة والابتلاء .
فكم من الناس افتتن بالمال فأكل الربا ، وأكل أموال اليتامى ، وأكل أخواته في الميراث !! وغش في تجارته ! واحتال على زبائنه ! وكذب في بيعه وشرائه !
وكم من الناس قد افتتن بالمال فترك الصلاة من أجله !! وبغى في الأرض وتكبر .. (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82) تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) .
أيها الأحبة : العبد إما شاكر لأنعم الله ، وإما كافر بسيده ومولاه .
قال تعالى : (هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) .
فهل شكرنا نعمه جل علاه ؟
هل شكرنا الله على نعمة البصر ؟
هل شكرنا الله على نعمة الاستماع ؟
هل شكرنا الله على نعمة الشم ؟
هل شكرنا الله على نعمة الإحساس ؟
هل شكرنا الله على نعمة التذوق ؟
هل شكرنا الله على نعمة التنفس ؟
هل شكرنا الله على نعمة حسن القامة ، وجمال الوجه ؟
هل شكرنا الله على نعمة الحركة ؟
هل شكرنا الله على نعمة النوم ؟
هل شكرنا الله على نعمة الولد ؟
هل شكرنا الله على نعمة الصحة ؟
هل شكرنا الله على نعمة العافية؟
هل شكرنا الله على نعمة المال ؟
هل شكرنا الله على نعمة الفهم ؟
هل شكرنا الله على نعمة العلم ؟
هل شكرنا الله على نعمة التفوق ؟
هل شكرنا الله على نعمة تيسير التوبة لك ؟
(وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) .
و أختم بهذه القصة لرجل من السابقين الصالحين الذين كانوا يسيرون سيرة حسنة في أموالهم وما يمتلكون ؛ فكانوا يؤدون حق الله فيها لا يبخلون ، ولا يمنع الفقراء حقوقهم ، ولا المساكين حوائجهم ؛ ففي "صحيح" مسلم من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " بَيْنَا رَجُلٌ بِفَلاَةٍ مِنَ الأَرْضِ [صحراء واسعة]، فَسَمِعَ صَوْتًا [هاتفاً]فِي سَحَابَةٍ : اسْقِ حَدِيقَةَ فُلاَنٍ [وصرح باسمه ؛ لكن هذه كناية من النبي صلى الله عليه وسلم عن اسم صاحب الحديقة والبستان]، فَتَنَحَّى ذَلِكَ السَّحَابُ ، فَأَفْرَغَ مَاءَهُ فِي حَرَّةٍ [الأرض ذات الحجارة السوداء ؛ كأنها أحرقت بالنار]، فَإِذَا شَرْجَةٌ [مسيل الماء الواقع في تلك الحرة]مِنْ تِلْكَ الشِّرَاجِ قَدِ اسْتَوْعَبَتْ ذَلِكَ الْمَاءَ كُلَّهُ [النازل من السحاب الواقع في الحرة] ، فَتَتَبَّعَ الْمَاءَ [أي : تتبع الرجل أثر الماء] ، فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ فِي حَدِيقَتِهِ يُحَوِّلُ الْمَاءَ بِمِسْحَاتِهِ [ من مكان إلى مكان بمسحاته أي : مجرفة أو آلة من حديد]، فَقَالَ لَهُ [أي : الرجل لصاحب الحديقة] : يَا عَبْدَ اللهِ مَا اسْمُكَ ؟ قَالَ : فُلاَنٌ ، لِلاِسْمِ الَّذِي سَمِعَ فِي السَّحَابَةِ ، فَقَالَ لَهُ : يَا عَبْدَ اللهِ لِمَ تَسْأَلُنِي عَنِ اسْمِي ؟ فَقَالَ : إِنِّي سَمِعْتُ صَوْتًا فِي السَّحَابِ الَّذِي هَذَا مَاؤُهُ يَقُولُ : اسْقِ حَدِيقَةَ فُلاَنٍ ، لاِسْمِكَ ، فَمَا تَصْنَعُ فِيهَا ؟ [أي : في حديقتك من الخير حتى تستحق هذه الكرامة الإلهية] قَالَ : أَمَّا إِذْ قُلْتَ هَذَا ، فَإِنِّي أَنْظُرُ إِلَى مَا يَخْرُجُ مِنْهَا ، فَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثِهِ ، وَآكُلُ أَنَا وَعِيَالِي ثُلُثًا ، وَأَرُدُّ فِيهَا ثُلُثَهُ ". أي : أصرف في الحديقة ثلث الخارج منها للزراعة والعمارة .
فهذا هو السر في حلول البركات ، ونزول الخيرات .(فَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثِهِ).
فأين الذين يراعون أحوال اليتامى والمساكين والفقراء ؟
وأين الأثرياء من إخوانهم المحتاجين الذين يفترشون الأرض ويلتحفون السماء ؟
(هَا أَنتُمْ هَؤُلاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ) .
فلا تبخلوا أيها الأغنياء ؟ ولا تهربوا أيها الأثرياء ؟
أعطوا الحقوق لأصحابها من المساكين والفقراء؟
فالله يكرم المتصدقين ،ويخصهم بأنواع كراماته، وهو واهب الفضل والعطاء .
الذنوب تمحق البركات ، والطاعات تجلب الخيرات .
إذا كنت في نعمة فارعها فإن الذنوب تزيل النعم وصنها بطاعة رب العباد فإن الإله سريع النقم
قال تعالى : (إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) .
وقال جل من قائل : (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ).
(لَا شَيْء مِمَّا ترى تبقى بشاشته ... يبْقى الْإِلَه ويفنى المَال وَالْولد)
(لم تغن عَن هُرْمُز يَوْمًا خزائنه ... والخلد قد حاولت عَاد فَمَا خلدوا)
(وَلَا سُلَيْمَان إِذْ تجْرِي الرِّيَاح لَهُ ... وَالْإِنْس وَالْجِنّ فِيمَا بَينهَا ترد)
(أَيْن الْمُلُوك الَّتِي كَانَت لعزتها ... من كل أَوب إِلَيْهَا وَافد يفد)
(حَوْض هُنَالك مورود بِلَا كدر ... لَا بُد من ورده يَوْمًا كَمَا وردوا)
والحمد لله رب العالمين
وكتب بحمد الله وتوفيقه / أبو عبد الله محمد بن العفيفي
غفر الله له
5جمادى الأولى 1435 ه