إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، فمن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.. أما بعد:

أخي... يا من حفت به الأحزان... وتوالت عليه النكبات... وتتابعت عليه الحسرات... وأجلبت عليه المصائب خيلها... فأنسته نفسه.. وبلدت حسه وأوجعت بأسه.. فانقطع في تصوره النصير.. وغاب عن مخيلته المعين.. وظن بالله الظنونا!

إليك... مبشرات.. مفرحات.. تعود بك من تيه التخبط والمعصية إلى رحاب الهدى والطاعة.. ومن ظلمات اليأس والحيرة.. إلى نور الأمل والاطمئنان.. ومن لجة الهلاك.. إلى سفينة النجاة.. فلا تحزن!

لا تنسينك الهموم.. إيمانك.. ولا تفقدن الأمل من ربك.. ولا تدع الذنوب تخرج أحزانك.. فالأمل في الله كبير.. وهو أرحم الراحمين!

أخي: دعني أبلغك دعوته -سبحانه- لك.. هو الرب وأنت عبده.. هو الرحيم وأنت المكروب.. هو مجيب دعوة المضطر.. وأنت المضطر وهو التواب وأنت المذنب.. تأمل في دعوته التي تحمل كل معاني الرحمة والشفقة عليك.. {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53].. إنه والله أمل كل مذنب تنكبت به ذنوبه.. ومخرج كل عاص أسرف في عصيانه.. تلك دعوته -سبحانه-.. فما عساه يكون جوابك؟

فإن قلت: إنني مسرف على نفسي كثيرا.. فالدعوة للمسرفين!
وإن قلت: ذنبي عظيم لا يغفر.. فالدعوة تقول {يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا}!

فمتى ستعود لطاعة الله.. فتسترد بها بسمتك وتعلوا بها في واحة المطمئنين همتك..
لذ إلى الله.. ولا تتأخر عن الدعوة.. فتحرم خيرها..

أخي.. لا تجعل الذنوب تقتل فيك الطمع في رحمة الله.. استخرج ضرها وضيقها.. بندم حار.. وتوبة صادقة.. وتأكد أن الله بك أرحم من نفسك وأمك وأبيك..

قال بعض السلف: "أول ما خلق الله القلم كتب إني أنا التواب أتوب على من تاب".
قال يحي بن معاذ: "لو لم يكن العفو أحب الأشياء إليه لم يبتل بالذنب أكرم الخلق عليه".

فلا تكن أخي.. ممن كثرت عليه الذنوب... فأعيته وأوحشت قلبه.. فسد على نفسه باب التوبة وأطلق لها العنان.. تجول يائسة في بحار المعاصي.. وتجر عليه أمواج الأحزان.. ينطفئ بها نور وجهه.. ويفتر بها بريق روحه..
بل.. افتح قلبك لربك.. وقل:
{رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23].

يارب أنت رجائي وفيك حسنت ظني
يا رب فاغفر ذنوبي وعافني واعف عني
العفو منك إلهي والذنب قد جاء مني
والظن فيك جميل حقق بفضلك ظني

لا تدع الأحزان تقتل فيك الطاعة.... لا تدعها تحبطك عن توبة.. فذنوبك باب أمل جديد.. في التوبة والعودة إلى الله!
ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون، فيستغفرون الله، فيغفر لهم» وفي رواية لأبي أيوب: «لولا أنكم تذنبون لخلق الله خلقا يذنبون فيغفر لهم» [صححه الألباني]، وفي رواية: «لو أنكم لم تكن لكم ذنوب، يغفرها الله لكم، لجاء الله بقوم لهم ذنوب، يغفرها لهم» [رواه مسلم].

أخي: أما وقد عرفت ما عرفت. فهل ستعود!
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم: 8].

أخي: ذنولك ضيق في صدرك.. وحرج في نفسك.. وسواد في بهجة قلبك.. لا يزيله إلا التوبة والاستغفار.. واستمطار رحمة الغفار!
فالتوبة أخي.. تبهج حياتك.. وتذهب همك.. وتكون سببا في مسراتك وأفراحك..

ففي الحديث عن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لله أشد فرحا بتوبة عبده، حين يتوب إليه، من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه، وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها، فأتى شجرة، فاضطجع في ظلها، قد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذا هو بها، قائمة عنده، فأخذ بخطامها، ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح» [رواه مسلم].

أخي: يا من أسرف على نفسه.. وأيس من ربه.. أين أنت من رحمة الله التي وسعت كل شيء.. أين أنت من سعة غفرانه وهو يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها.

أين أنت من سعة عفو الله وهو الذي يقول في الحديث القدسي: «يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعا، فاستغفروني أغفر لكم» [رواه مسلم].

أحسن ظنك بربك ولا تعجز عن الاستغفار من ذنبك.. واحذر أن تتمادى بك الأحزان في متاهات التسخط والطغيان.. تذكر رحلة الموت.. وسؤال القبر.. ووقوفك بين يدي الله للحساب.

أخي التائب: احزن على ذنبك.. ولا تجعل من حزنك منبعا لليأس من رحمة الله.. طهر نفسك من أدران الشهوات.. واحفظها من أثقال الشبهات.. وسابق مع المتسابقين إلى الخيرات.. أقم صلاتك لوقتها.. بر والديك.. وصل رحمك.. وأقلع عن كل ما يغضب الله.. وتقرب إلى الله شبرا يتقرب إليك ذراعا.. وأته ماشيا.. يأتك هرولة..
واعلم أن السكينة في ذكره، والطمأنينة في شكره والعز في طاعته والإقبال عليه.. وأن الذل والهوان.. والبلايا والأحزان.. في عصيانه ومخالفته.. {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج: 18].

توبة مؤثرة

- روي أن رجلا يعرف بـ (دينار العيار) كانت له والدة تعظه ولا يتعظ فمر في بعض الأيام بمقبرة كثيرة العظام، فأخذ منها عظما نخرا فانفت في يده، ففكر في نفسه، وقال لنفسه: ويحك! كأني بك غدا قد صار عظمك هكذا رفاتا والجسم ترابا، وأنا اليوم أقدم على المعاصي، فندم وعزم على التوبة، ورفع رأسه إلى السماء وقال: إلهي إليك ألقيت مقاليد أمري، فاقبلني وارحمني، ثم مضى نحو أمه متغير اللون، فقال: يا أماه! ما يصنع بالعبد الأبق إذا أخذه سيده؟ فقالت: يخشن ملبسه ومطعمه، ويغل يده وقدمه. فقال: أريد جبة من صوف وأقراصا من شعير، وتفعلين بي كما يفعل بالآبق، لعل مولاي يرى ذلي فيرحمني، ففعلت ما طلب.

- فكان إذا جنه الليل أخذ في البكاء والعويل، ويقول لنفسه: ويحك يا دينار! ألك قوة على النار؟ كيف تعرضت لغضب الجبار؟ ويبقى هكذا إلى الصباح، فقالت له أمه في بعض الليالي: ارفق بنفسك، فقال: دعيني أتعب قليلا لعلي أستريح طويلا، يا أمي! إن لي موقفا طويلا بين يدي رب جليل، ولا أدري أيؤمر بي إلى الظل الظليل، أو إلى شر مقيل، إني أخاف عناء لا راحة بعده، وتوبيخا لا عفو معه، قالت: فاسترح قليلا، فقال: الراحة أطلب؟ أتضمنين لي الخلاص؟ قالت: فمن يضمنه لي؟ قال: فدعيني وما أنا عليه، كأنك يا أماه غدا بالخلائق يساقون إلى الجنة وأنا أساق إلى النار! فمرت به في بعض الليالي في قراءته: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر: 92، 93] ففكر فيها، وبكى، وجعل يضطرب كالحية حتى خر مغشيا عليه، فجاءت أمه إليه ونادته، فلم يجبها، فالت: قرة عيني! أين الملتقى؟ فقال بصوت ضعيف: إن لم تجدني في عرصة يوم القيامة فاسألي مالكا (يريد مالكا خازن النار) عني، ثم شهق شهقة مات فيها فجهزته وغسلته، وخرجت تنادي: أيها الناس! هلموا إلى الصلاة على قتيل النار! فجاء الناس، فلم يُرى أكثر جمعا ولا أغزر دمعا من ذلك اليوم.

- وروي أن رجلا جاء إلى إبراهيم بن أدهم فقال له: يا أبا إسحاق! إني مسرف على نفسي، فاعرض علي ما يكون لها زاجرا ومستنقذا لقلبي.
قال: إن قبلت خمس خصال، وقدرت عليها لم تضرك معصية، ولم توبقك لذة.
قال: هات يا أبا إسحاق!

قال: أما الأولى: فإذا أردت أن تعصي الله -عز وجل- فلا تأكل رزقه.
قال: فمن أين آكل وكل ما في الأرض من رزقه؟
قال له: يا هذا! أفيحسن أن تأكل رزقه وتعصيه؟!

قال: لا، هات الثانية.
قال: وإذا أردت أن تعصيه فلا تسكن شيئا من بلاده.
قال الرجل: هذه أعظم من الأولى! يا هذا! إذا كان المشرق والمغرب وما بينهما له، فأين أسكن؟
قال: يا هذا أفيحسن أن تأكل من رزقه وتسكن بلاده وتعصيه؟

قال: لا، هات الثالثة.
قال: إذا أردت أن تعصيه وأنت تحت رزقه وفي بلاده، فانظر موضعا لا يراك فيه مبارزا له فأعصه فيه.
قال: يا إبراهيم! كيف هذا وهو مطلع على ما في السرائر؟
قال: يا هذا! أفيحسن أن تأكل رزقه وتسكن بلاده وتعصيه وهو يراك ويرى ما تجاهره به؟!

قال: لا، هات الرابعة!
قال: إذا جاءك ملك الموت ليقبض روحك فقل له: أخرني حتى أتوب توبة نصوحا وأعمل لله عملا صالحا.
قال: لا يقبل مني!
قال: يا هذا! فأنت إذا لم تقدر أن تدفع عنك الموت لتتوب، وتعلم أنه إذا جاء لم يكن له تأخير، فكيف ترجو وجه الخلاص؟!

قال: هات الخامسة!
قال: إذا جاءتك الزبانية يوم القيامة ليأخذوك إلى النار فلا تذهب معهم.
قال: لا يدعونني ولا يقبلون مني.
قال: فكيف ترجو النجاة إذا؟
قال له: يا إبراهيم! حسبيّ أن أستغفر الله وأن أتوب إليه.
ولزمه في العبادة حتى فرق الموت بينهما.

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.




لا تنسوني إخواني وأخواتي من دعائكم
جزاكم الله خيرا وبارك فيكم